خرج سرد الروائيين الأسرى من النظرة التي تؤطره داخل السيرة الذاتية والتوثيقية، ليتجاوز أحياناً تصنيفه داخل أدب السجون. ما يلفت أحياناً في هذا الأدب هو انفتاحه على مضامين أخرى غير سؤال السجن والأسر. وسواء تحدّث الكتّاب الأسرى عن السجن أو عن أسئلة الحرية الأعمق، تظلّ الجمالية الفنية أيضاً تثير اهتمامنا حتى ينأى عن كونه وثيقة تاريخية، ليكون فناً قائماً بحدّ ذاته سواء كان عن السجن أو منه. رغم المراحل الكثيرة التي مرّ بها هذا الإبداع من كتابة الرسائل إلى الأهل حتى تهريب الروايات أثناء زيارة الأقارب، إلا أنه استطاع أن يقترح أيضاً رؤيته للتحرر من وجهة نظر إبداعية. لم يقتصر هذا الأدب على التجربة الفلسطينية، بل هو جزء من إبداع عربي وعالمي. لكن في الحالة الفلسطينية، هناك خصوصية ما، كون هذا الاحتلال هو احتلال لسردية إحلالية تحاول فرض نفسها على سردية الآخر. كانت رواية «الحياة بعد الموت» لاسكندر الخوري البيتجالي، أول عمل روائي فلسطيني، تناول موضوع السجن في زمن الأتراك بين 1914 و1918. كثيرون أيضاً كتبوا عن السجن من دون أن يعيشوا التجربة كإميل حبيبي في «المتشائل» (1974) وسحر خليفة في «الصبار» (1976) و«عباد الشمس» (1979). لكن هناك روايات كثيرة صدرت أخيراً وكتّابها أسرى سابقون أو حاليون تعكس ما يضيء شيئاً آخر عن فنية السرد داخل السجن وتطوره وخروجه من اللغة الأسيرة:
يذهب اسماعيل رمضان في روايته «حسن اللاوعي» (دار الفارابي ـ 2019) بعيداً نحو مساءلة حركة النضال الفلسطينية، من خلال استحضار شخصية الأسير حسن اللاوي الذي قضى 42 عاماً في السجن، وهو يحاور أسرى آخرين داخل المعتقلات. هكذا، نطل على عالم السجن بكلّ وحشيته، يجعلنا الروائي ننظر من الداخل إلى الخارج، حيث رؤية الأمور بطريقة مختلفة. نشعر أن فلسطين أسيرة وأن حسن اللاوي هو فلسطين كلّها بنضالات شعبها. هناك حضور مختلف للتفاصيل، فنتخيّل أن عالم السجن مختلف تماماً عن الحياة، حيث العلاقة بين السجناء لا يقيّدها الفارق العمري بل الانتماء إلى المخيم نفسه. لكن اسماعيل رمضان لا يتوقف عند وصف هذا العالم، بل يجعلنا نقع على سردية تختلف عن الرواية أو النص، ربما لرغبة بأن لا يقع نصّه في التصنيف العادي، فيعطيه حرية أن يكون رواية ونصاً أدبياً في الوقت نفسه.
ينحاز الكاتب هنا لأسئلته الشخصية التي يريد أن يطرحها في أي أسلوب كان. يعطي للواقع مساحةً واسعةً في الكتاب من دون أن ينسى أن يجعل الأسئلة ترقى إلى المستوى الإنساني الأعمق: حين يطرح هذا السؤال الذي يباغتنا عن الموت: هل الموت الجماعي بقنبلة نووية أو تسونامي أقل أثراً أو حزناً من الموت الفردي؟ أو قطع شجرة نعرفها أكثر إيلاماً من احتراق أو جفاف غابة؟ ورغم أن الكاتب يطرح هذه الأسئلة في سياق منفصل عن الأحداث، إلا أنها تستحق أن نتأملها كاطلاع على طريقة تفكير خارجة من السجن. إنها طريقة الكاتب في مساءلة التفاصيل البسيطة في حياتنا. وفي مكان آخر، يرى الحياة كلها وقد تحولت إلى سجن حقيقي، فيقول: كل منا خبِر الضيق والاحتجاز والتضييق والمنع من السفر وحتى السجن، وكثير منا يحيون احتجاز الفكر وسيطرته على عقولهم وتحولهم إلى أسرى معتقدات شريرة ذهبت بعقولهم. ثم يضيف: كل حياتنا وجغرافيتنا هي سجون مادية وفكرية، فهل نحن حسن اللاوي؟ يقرأ اسماعيل رمضان الماضي لكن من وجهة نظر شخصيات واقعية، ليكون سؤاله واضحاً وبدون حبكات روائية وبلغة تريد أن تنتصر للحكاية الواقعية.
ثمة طريق أخرى نحتها مبدعون آخرون كباسم الخندقجي، فهو يرفض اقتران اسمه كمبدع بكونه أسيراً. يفضل حين تصدر رواية أو مجموعة شعرية له، وصفه بالروائي أو الشاعر، لافتاً إلى أنّه يسعى لوضع بصمة خاصة تغيّر الصورة النمطية حول أدب السجون.
هُرّبت رواية «مسك الكفاية» من السجن كما تُهرّب النطف، لكن باسم كان يهرّبها أيضاً من فكرة المكان وسطوته. هو يريد أن يذهب بعيداً إلى التاريخ، لينحت نفقاً يخرج فيه سرديته من واقع السجن. في «مسك الكفاية» (الدار العربية للعلوم ناشرون ـ 2014)، يسرد باسم فترة ما في التاريخ العربي وفي ناحية ما في جنوب الجزيرة العربية الخارجة عن حكم الخليفة العباسي، حيث تعيش أسرة مات معيلها. ولكن في بؤرة السرد، نلتقي ببطلة الرواية، وهي فتاة جميلة، تأخذها الأحداث لتصبح سيدة الظلال الحرة وتجابه ذكورية التاريخ وتنتصر عليه. ثمة رغبة جامحة عند الروائي بأن يتحدث بصوت آخر غير صوته، فيتحدث بصوت امرأة ليطرح أبعد من أسئلة السجن... إنّه استنطاق لأسئلة الذكورية القابعة في سجون التاريخ. يريد باسم للمرأة أن تحكي هذا التاريخ بنفسها، وهو يرفع السرد من مستوى البحث إلى عمارة الرواية، رغم البحث المضني الذي أمضاه طويلاً وهو يفتش في الكتب التراثية والتاريخية. تقودنا «مسك الكفاية» للتعامل معها وقراءتها قراءة تختلف عن أنها رواية لأسير. نتنبّه إلى أننا أمام شخصيات آتية من كتب التاريخ، فها هو يكتب عن سر عثوره على موضوع الرواية، فيقول في التوطئة: «لم أكتب سوى ما انتابني من جنون وذهول وحزن أثناء تعثري باسمها الغامض في سفر تاريخي لم يلطّخها إلا بحبر ذكوريته العمياء الطاغية». يطمح باسم أن يحرر التاريخ باسم المرأة وبصوتها، وهذا هو مشروعه التحرري.
أما «سرّ الزيت»، فتخرج من سرّ آخر. إنها أول رواية لليافعين تخرج من السجن وقد كتبها الروائي وليد دقة في سجن جلبوع عام 2017. وعلى أثر الرواية، فرضت إدارة معتقلات الاحتلال عقوبات كثيرة على الأسير دقة، من بينها مصادرة كتبه وحرمانه من الزيارة لمدة شهرين. يستدعي الكاتب هنا الخيال الطفولي كملاذ حرّ وهادف، فيحضر جود الطفل ومعه مجموعة من الحيوانات وشجرة الزيتون لتشاركه سؤاله عن الحرية. لكن كما قال وليد في بداية الرواية: «أكتب كي أتحرر من السجن، على أمل أن أحرره مني». لكن وليد يحرّر شخصياته أيضاً من الجدية، ويضفي مسحة طفولية بريئة وحالمة على جو الحكاية. رغم أنه يسرد حكاية عن السجن، إلا أنه بفنية عالية يجعلنا نفكر في القصة كمشروع فني وسردي، حيث سؤال «كيف سيزور جود أباه في السجن؟» يصبح سؤالاً وجودياً وإنسانياً وسياسياً في الوقت نفسه.
جود، الطفل هرب من نطفة أبيه في السجن، وعقاباً له حرمه الاحتلال من زيارة والده في السجن، فتجمعت كل الحيوانات لتفكر معه في معضلة وصوله إلى أبيه بدون تصريح: إما القفز عن الجدران وإما الطيران. لكنهم لم يستطيعوا أن يجدوا حلاً، حتى ظهرت الشجرة أم رومي، التي أخبرته عن سر الزيت، وهو الاختفاء. وإذا مسحه جود على جسده، فسوف يصبح لامرئياً ويستطيع رؤية والده. لكن هذا ليس هو الحل، فالقرار الأخلاقي الصحيح المتمثّل بالبحث العلمي هو الذي سيمكّن جود من الشفاء من الاحتلال.
يظهر الأسر مأزقاً وجودياً يضعنا أمام سؤال الحرية، يتشارك فيه البشر مع الحيوانات والشجر التي عانت أيضاً من الاحتلال. الحل ليس أن نكون لامرئيين، بل التفكير في البحث عن المعرفة التي ستحررنا من أقدم أسير عربي وهو المستقبل كما قال جود في نهاية الرواية. يريد وليد دقة أن يحرر المستقبل في عقول اليافعين، وهو أعمق سؤال عن الحرية، في اقتراح جمالي وهو تحرير اللغة من السردية الجدية واقترابها من الطفولة والخرافية واللعب بسحر العوالم الأخرى.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا