غيّب الموت أول من أمس رياض نجيب الريس (1937- 2020)، «آخر الخوارج»، وصاحب البصمة الاستثنائية في تاريخ الصحافة العربية. بقلم وكاميرا خاض في رمال الصحراء وعبرَ بحاراً وقارات ومدناً خرافية. الشاعر الضالّ على تخوم «مجلة شعر» وجد بلاغته في الكتابة الصحافية، محاولاً استكمال ميراث الأب، نجيب الريس، مؤسس جريدة «القبس» الدمشقية، قبل أن يطاولها قانون التأميم، زمن الوحدة المصرية السورية، ثم قانون الرقابة، حين قرّر إعادة إصدارها، مطلع الألفية الثالثة من دمشق بوصفها «جريدة لشعبين». مغامر شجاع، لم يتوقّف عن الحلم يوماً. ما إن يفشل مشروع حتى يفكّر بآخر، من دون أن يتخلّى عن شعاره «إما حرية أو لا حرية». أنهى الريس دراسته في «جامعة كامبريدج» متسلّحاً بثقافة أنغلوسكسونية من جهة، ومتدثّراً بعباءة العروبة من جهةٍ ثانية، بالإضافة إلى شغف لا ينتهي بصحافة عابرة للقارات، مسجّلاً وقائع حروب واضطرابات بلدان مشتعلة تمتد من الخليج العربي إلى فيتنام، ومن سمرقند إلى زنجبار، بوصفه مراسلاً جوّالاً بشهية مفتوحة على الدوام في اكتشاف خرائط مجهولة، وأسرار ما يحدث في الغرف المغلقة.


سيرة ذاتية مفتوحة على سير الآخرين، أولئك الذين صنعوا تاريخاً للأمل، وسعوا إلى تغيير العالم، أمثال يوسف الخال، وتوفيق صايغ، وجبرا إبراهيم جبرا وغسان تويني، إذ لطالما وضع توقيعه في منابر الآخرين، بحبرٍ مختلف، من «شعر»، و«حوار»، إلى «الصيّاد»، و«الحياة»، و«النهار»، قبل أن يؤسس منبره الخاص. هكذا بزغت «المنار» من لندن (1977)، إثر نشوب الحرب الأهلية اللبنانية، كأول صحيفة أسبوعية عربية في المهجر، ليتبعها بـ «شركة رياض الريس للكتب» أكثر دور النشر العربية جرأة وانفتاحاً على الحداثة، الدار التي استقطبت العناوين الإشكالية المحرّمة والمثيرة للجدل، قبل أن تستقر في بيروت عاصمة الكتاب العربي، من دون أن يهتم صاحبها بقوائم الكتب الممنوعة في هذه العاصمة أو تلك. وسوف يستكمل مشروعه بمجلة «الناقد» (1988 ـــ 1995)، التي أثارت سجالات أدبية وفكرية ساخنة وجريئة، نظن بأنها لم تتكرّر لاحقاً في أي منبر صحافي عربي بما يخصّ «ثقافة التنوير».
وكان معتاداً أن تتصفّح نسختك من المجلة بصفحات ممزّقة من قصيدة، أو مقال فكري، أو فصل من رواية محرّمة طاولها مقص الرقيب. هكذا كان رياض الريس أباً روحياً أكثر منه صاحب منبر يتحكّم بمحتواه. نقرأ سيرته في مهنة المتاعب، فنحزن على ما آلت إليه الصحافة العربية من انتكاسات وتحزّب وأكاذيب، وكأن ذلك العصر الذهبي لن يعود مرّة أخرى، فهذا الرجل من كان يقول «لا» في عصر «نعم». تختزن مؤلفات الريس نبرة أدبية في توصيف الأحوال، ما يغري القارئ بالغوص في محتويات «صندوق البريد» المزدحم، فههنا لا رسائل مجانية، إنما تواريخ شغف بمهنة محمولة على الأسرار والمفارقات والفضائح. كتابة هجينة تصنع من عجينة اليومي خبزاً طازجاً على الدوام، سواء في ما يتعلّق بالمطبخ الصحافي أم بعبث التاريخ، ورياح السياسة. هو أيضاً، السندباد الذي سعى إلى كسر بيضة الرّخ بمطرقة الاختلاف والجرأة في المكاشفة، وعبور الأسلاك الشائكة وحقول الألغام، ليس بما يكتبه فقط، وإنما لما يكتبه الآخرون في المنابر التي أسسها تباعاً. فقد كانت دار الريس ملاذاً للهاربين من جحيم الرقابة في بلادهم، وإذا بالمخطوطات الممنوعة هنا وهناك، تجد لها متنفساً للعيش ونافذة للضوء، من موقع الضدّ.
هكذا أطلق «جائزة يوسف الخال للشعر»، و«جائزة الناقد للرواية العربية» مُفسحاً المجال لعشرات الأصوات الجديدة كموجة إضافية في كتاب الحداثة. على رفوف هذه المكتبة، اكتشفنا كتابات الصادق النيهوم، وصادق جلال العظم، وفواز طرابلسي، وآخرين، وبمعنى آخر، كتابة التحريض لا الترويض، كتابة بيروت لا العواصم النائمة. بيروت التي كانت مشتل الثقافة العربية بمقاهيها وأرصفتها وضيوفها من المثقفين العرب المنفيين. وإذا بالمنفى يتحوّل إلى جنّة للحرية، وإلى حقل للشغب: «كنت صاحب مهنة لم يكن مسموحاً بممارستها إلا في لبنان، وكان لبنان يعتز في ذلك الزمان بأنه أمسى البلد الوحيد في العالم العربي القادر على احتضان صحافة حرة». في «صحافي المسافات الطويلة»، يضيء على أشخاص، ومواقف، ومفارقات، وحوارات، وأخطاء، ليختزل تجربته بالعطش إلى الحقيقة، وإذا ببيروت عطشى وضيقة، ودمشق أضيق، فقد جفّ بردى، ولم يعد الطريق سالكاً نحو الينابيع.
تاريخه هو تاريخ الصحافة العربية في عصرها الذهبي

كان حلمه أن تبزغ «القبس» من دمشق، بعد طول احتجاب. لكن بيروقراطية الأجهزة أجهضت المشروع. رياض الريس رجل الفواتير الخاسرة، والمشاريع الرابحة فكرياً، فالكتاب بالنسبة إليه، نهر معرفة وليس بضاعة، ودار النشر خيمة حريّة وليست دكاناً للكسب والمساومة. تاريخ صاحب «مصاحف وسيوف»، هو تاريخ الصحافة العربية في عصرها الذهبي، من دون تقديسٍ للذات، فـ «الصحافي أشبه بالفلاح الذي يحمل مذراة يذرّي بها قمح التاريخ بحبّاته المسوّسة والسليمة. يُعرِّض الأحداث للهواء. ثم ينكفئ. إنه أشبه بخزان صامت. قد لا تتيح له الحياة فرصة أن يفرغ ما في ذاكرته إلى العلن. أو قد يداهمه مثلاً مرض لئيم، يتنافى وطبيعته ويتعارض تماماً مع أسلوب حياته، كما في حالتي هذه. وعليه عندئذ أن يعرف كيف يتعايش معه» يقول.
في سنواته الأخيرة، انكفأ رياض الريس، في غياب مشاريعه الصحافية. غابت «الناقد»، وانطفأت «النقّاد» (2000 ـــ 2003)، وغاب اسمه عن صحافة الآخرين، وإذا به «رهين المحبسين». كان عليه أن يقاوم المرض بالذهاب مرتين أسبوعياً إلى المستشفى لغسيل الكُلى. لا نعلم حجم الألم الذي كان يكابده، وهو يجدّد دمه كلّ مرة، وما محتوى شريط الذكريات الذي يعبر أمامه، وهو مكبّل بالأجهزة الطبية، على مسافة قصيرة من الهاوية. فلننصت إذاً إليه وهو يرثو نفسه: «ها أنت تقف وحيداً أمام صندوق حياتك، الذي كسائر صناديق الآخرين، لا يُفتح بسهولة. وربما سيكون عليك كسره أو رميه على الأرض، ستجد في هذا الصندوق فتاتاً من بطاقات الآخرين البريدية أو قطعاً من صناديقهم، فهذا ما يفعله الأصدقاء حين يغيبون. يتركون في ذاكرة من بقي حياً عاداتهم المفضلة، أصواتهم، رؤيتهم للحياة، ونكرانهم المتواصل للموت. وهذا ربما ما أفعله الآن».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا