في وقت تنعَى فيه بيروت مئات الشهداء وتداوي آلاف الجرحى جراء انفجار المرفأ، يرحل عنا رمز وطني من بين الجرحى، وهو السيدة ايفون سرسق، الليدي كوكرن (بعد زواجها من الإيرلندي اللورد دسموند كوكرن. قد يرتبط اسم «سرسق» ولقب «ليدي» بالنسبة إلى البعض بأرستقراطية بيروتية جشعة وأنانية، وببيع أراض فلسطينية في عشرينيات القرن الماضي لوكالات صهيونية. قسم وفير من ذلك هو للأسف صحيح. لكن إن استحقّت الليدي ايفون كوكرن تنويهاً ورثاء مميزين، فذلك لأنها استطاعت من خلال شخصيتها وشجاعتها الفريدتين أن تتمايز عن محيطها الجامد بعض الشيء وأن تتحدّاه في ساحات عديدة. ولدت ايفون سنة 1922 (يرجح بعض أقاربها أن تكون قد ولدت بالفعل حوالى سنة 1920، فلا وجود لوثائق ولادة في تلك الأيام). عندما توفي والدها ألفرد سرسق، كانت في سن الثلاث سنوات. وفيما بقي والدها في ذهنها على شكل وميض ذكريات ضبابية، تولّت والدتها الأرستقراطية المتحدّرة من مدينة نابولي وعمتها اللبنانية تربية الطفلة.
أول ما تميزت به ايفون سرسق هو تنشئتها على يد سيدات حصراً. علّمها ذلك ما تستطيع أن تنجزه امرأة بنفسها. أما تحصيلها الدراسي، فكان في كنف مدرسة راهبات فرنسيات في بريطانيا، بعدما كانت هذه المؤسسة قد هربت إلى بريطانيا إبان الثورة الفرنسية. وقد تفسّر تربيتها الكاثوليكية المحافظة هذه، تحت تأثير الراهبات والوالدة الإيطالية معاً، نظرة ايفون الناقدة للماسونية لاحقاً. ففيما اشتهرت عائلة سرسق بانتماء العديد من أفرادها إلى الماسونية وارتباطهم الوطيد بالنخب الماسونية الاستعمارية الغربية (وكان والد ايفون ألفرد كما جدّها موسى قد وصلا إلى أعلى درجات الماسونية)، شاءت ايفون أن تغرد خارج السرب.

نجحت في ثني الرئيس الراحل رفيق الحريري و«سوليدير» عن هدم الوسط التجاري بالكامل

يصعب على المرء أن يتخيل أنّ سيدة تسبح في محيط الطبقة الثرية والأرستقراطية قد تراودها أفكار يسارية أو اشتراكية. لكنني أذكر مناهضتها الدائمة والصارمة لحروب الناتو التدميرية، ولا سيما لقصف حلف الناتو لبلغراد في التسعينيات وتفتيت يوغسلافيا. كما أذكر كتابات لها من سنة 1973 (لم تُنشر) تشيد فيها بالاشتراكية كفكرة عامة، لكنها تنتهي بالقول إن ما يردعها عنها هو الطابع المملّ والروتيني للمجتمعات الاشتراكية آنذاك.
وما زلت أذكر موقفها الشجاع والمبني على رؤية ودراية، عند تفجّر الأحداث في سوريا. حين كان الجيش السوري يُتَّهم بإطلاق النار على المتظاهرين والعالم يكاد يقف بأسره ضد الحكومة السورية (حتى الذين يقفون الآن معها) وفيما كان ذوو ومقربو الليدي كوكرن يقاطعون كل من لديه صلة بـ «النظام» (مقاطعة بإيعاز غربي) والبعض يدعو الفصائل للتسلح في وجه «الطاغية»، نشرت السيدة مقالة في L’Orient-Le Jour تنبه فيها من الوقوع في فخ الفتنة والتحارب وتشيد بالحكومة السورية التي ـ رغم كل عيوبها ـ استطاعت على الأقل أن تحافظ على بيئة وتراث بلادها، على عكس لبنان (واحترام البيئة والتراث جزء أساسي من احترام الإنسان). قامت الدنيا على السيدة ولم تقعد (ويتساءل المرء إن كانت L’Orient-Le Jour مع انحيازها التام لتقبل بنشر مقال مماثل لولا مكانة ايفون الاجتماعية). وبعد أيام، نشرت سيدة من آل بسترس مقالاً في الجريدة نفسها تنعت فيها الليدي كوكرن بكل الأسماء.
وبالفعل، أظهرت الأحداث لاحقاً أن ما كان يحضر لسوريا ولبنان من قبل بادئي ومموّلي الحرب كان الهدف الأول والأخير منه التدمير والتفتيت، وندم عندها الكثير على مواقفهم الأولى، إلا الليدي كوكرن. فهل لعب دوراً ذاك الاتصال الذي تلقّته ايفون من صديقة نافذة لها قبل سنوات من نشوب ما سمي بالـ«ربيع العربي»، تنبهها فيه إلى مشروع يهدف إلى وضع السلطة في بلدان المنطقة في يد «الإخوان المسلمين»؟
أما زوارها اللبنانيون الذين كانوا يؤيدون الهجمة المسلحة على سوريا، كأن لبنان على كوكب زحل وسوريا على المريخ، فكانت تصرخ فيهم: «أنتم جميعكم سوريون». وهي بالفعل كانت تعتبر الحقبة العثمانية (قبل صعود «تركيا الفتاة» على الأقل) كحقبة ذهبية كان المرء يستطيع فيها أن يستقل القطار بكل بساطة لتمضية نهاية الأسبوع في القدس أو القاهرة، قبل زرع «العضو» الصهيوني في خاصرة المنطقة والذي جرّنا إلى ما نحن فيه.
كانت الليدي كوكرن تصف بيع الأراضي الفلسطينية من قبل أسلافها بـ «عدم المسؤولية». ويذكر التاريخ أن الليدي كوكرن كانت أول شخص يربح دعوى قضائية ضد دولة «إسرائيل» في سبيل استرجاع أراض فلسطينية كانت قد ورثتها عن والدها ومن ثم احتلّها الصهاينة. كان ذلك في الستينيات، عندما كان هذا النوع من الدعاوى متاحاً. فبعد حرب الـ 67، تغيّر المشهد كلياً واستحكم الاحتلال.
أما عمل ايفون الدؤوب وإنجازاتها العديدة في مجال الحفاظ على تراث لبنان المعماري، فلا يستحق مجلدات فحسب، بل يضعها أيضاً «في خانة مختلفة تماماً» عن بعض أقربائها من الأثرياء الذين فضّلوا بيع عقاراتهم التراثية وهدمها في سبيل مضاعفة ثرواتهم. ولنذكر مثلاً تأثير الحملة التي قامت بها جمعيتها «أبساد» في أوائل التسعينيات والتي نجحت في ثني الرئيس الراحل رفيق الحريري و«سوليدير» عن هدم الوسط التجاري بالكامل وتحويله إلى غابة من ناطحات السحاب.
كانت تصف بيع الأراضي الفلسطينية من قبل أسلافها بـ «عدم المسؤولية»


وكانت الليدي كوكرن ـ رغم سنّها المتقدمة ـــ تستغل كل فرصة لمنع التراث من الزوال. فحين كنت أعمل كمنسق إعلامي في السفارة الألمانية في بيروت، أردت أن أعرف سفيرة ألمانيا آنذاك السيدة زيفكر على الليدي كوكرن، في إطار تعزيز العلاقات بين البلدين. دعتنا الليدي كوكرن إلى دارتها. وبما أنها كانت على علم بأن السفارة الألمانية تبحث عن بناء جديد، دعت أيضاً المهندس المحاضر في التراث المعماري مازن حيدر، ومن ثم عرضت على السفيرة فكرة أن تشتري السفارة الألمانية أي بناء تراثي في بيروت مهدد بالهدم وترممه وتسكنه، وبذلك تكون قد أنقذته. للأسف، لم تعر السفيرة الموضوع أي اهتمام، بل إن الليدي كوكرن بعدما صدمت من جفاف تصرّف السفيرة، قررت ألا تدعو أي سفير أجنبي إلى دارتها من حينها فصاعداً!
ولعل تمردها الأخير كان الأفصح والأكثر دلالة: فهي رحلت عن هذه الدنيا عشية يوم الاحتفال بمئوية لبنان الكبير، الذي أُعلن سنة 1920 (سنة ولادتها تقريباً) من على عتبة قصر الصنوبر الذي شيّده والدها ألفرد سرسق (يظهر في الصورة التذكارية لإعلان لبنان الكبير، إلى جانب الجنرال غورو).
جاء توقيتها دقيقاً، وكانت رسالتها واضحة. هل هي تساءلت: ما النفع من استذكار تجربة سياسية متلعثمة خانت وعودها بعد قرن من الزمان؟ هل أرادت تفادي هذه اللحظة المخجلة والتعبير عن خيبتها إزاء نظام سياسي وضعه المستعمر الفرنسي وأعوانه؟
قد يستحيل تصنيف الليدي كوكرن «عروبية في الصميم» (كما وصفها المهندس مازن حيدر) أو «ذات ميول يسارية»، ولكن ما قيمة التصنيفات والتعليب في الأصل؟ ليس هذا هو الهدف. فهل يكفي أن يرتدي الإنسان قميصاً بصورة تشي غيفارا أو أن يلتقي مرة في حياته بفيديل كاسترو لكي يصبح مناضلاً في سبيل العدالة (كما يفعل بعض المنافقين)؟ استطاعت الليدي كوكرن أن تتخطّى كل التصنيفات والهويات الضيقة والتعليب الفكري الذي اتسم به محيطها كي تخلق شخصية فريدة وشجاعة لن تنفك عن إلهامنا.

* انتشرت في الآونة الأخيرة مقالات تنبش ماضي ليدي كوكرن وتوجّه إليها تهماً خطيرة، من شأنها أن تفاجئ كل من عرفها أو تابع أداءها عن كثب خلال السنوات الأخيرة. نفضل الابتعاد عن هذه المقاربات، في انتظار القرائن والإثباتات

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا