حديث الثورة شائك لا ينتهي فصولًا، وخاصة في عصر الثورات العربية الحزينة التي اندلعت خلال العقد الأخير وفشلت غالبيتها وانتهت بالفوضى أو بالعودة إلى الحكم الديكتاتوري. شكَّل موضوع الانقلابات العسكرية مادة دسمة للأدب الروائي وألهم العديد من الروائيين على مقاربته نثراً أو شعراً. ومن هؤلاء نذكر الكاتب الفرنسي من أصل روسي هنري ترويا الذي يُعتبر من أهم المؤلفين الفرنسيين في القرن العشرين، وسبق أن فاز بجائزة «غونكور» كما انتُخب ليكون عضواً في الأكاديمية الفرنسية.في إحدى روائعه الأدبية «مجد المهزومين» La gloire des vaincus، يروي لنا هنري ترويا بأسلوب مبهر وملحمي عن الثورة التي خطّطت لها حركة كانون الأول 1825 للإطاحة بحكم القيصر واستبداله بحكم ليبرالي تحرّري. في هذه الرواية، يعيد الكاتب رواية مرحلة مهمة من التاريخ الروسي ويحكي لنا أحداث الثورة وفشلها وقصص السجن والنفي، بالإضافة الى الرحلة الشاقّة التي قامت بها زوجات الثوار المنفيين للحاق بأزواجهن إلى سيبيريا. رغم إطارها التخييلي، إلا أنّ هذه الرواية التاريخية تروي الأحداث بشكل أفضل من الكتب والوثائق التاريخية، لأنَّ الأخيرة تسرد الحقائق بأسلوب ديداكتيكي وفقط من وجهة نظر الحاكم أو الأيديولوجية المسيطرة على السلطة، بينما الرواية تُخبرنا بما يمتنع التاريخ عن ذكره، فهي تتغلغل في خبايا النفوس لتُظهر لنا مشاعر الناس ومتاعبهم خلال حياتهم اليومية وأيضاً عاداتهم وتقاليدهم. فالرواية قادرة على تجاوز خطاب السلطة لتنقل وجهة نظر مختلفة وجديدة ولتُعَبر عن هواجس الشعوب وطموحاتها.
في هذه الرواية، نتابع أحداث الثورة وتداعياتها من خلال وجهة نظر أحد المتمرّدين، وهو نيقولا أوزاريف. نفهم من خلال مسيرة هذا البطل الأسباب التي دفعت به وبغيره من النبلاء للمشاركة في الانقلاب رغم علمهم المسبق بمقدار التضحية التي سوف يقومون بها والخسائر التي سوف يُمنون بها من أجل تحقيق هدف نبيل هو تحرير الوطن من الاستبداد. القصة تبدأ بعد عودة الضباط الروس من فرنسا بعدما شاركوا في إعادة الملكية وإلحاق الهزيمة بنابليون بونابرت. المفارقة أنَّ بعض هؤلاء الضباط المساهمين في تثبيت حكم آل بوربون أُعجبوا جداً بنظام الحكم في أوروبا ووجدوه أكثر تحرراً وليبرالية من حكم القيصر الديكتاتوري الذي يستمد سلطته من الكنيسة. كما أنهم قرأوا كتب الفلاسفة الفرنسيين وتأثروا بها، فقرّروا الاجتماع في منزل أحد الثوار وهو الشاعر ريلييف للتحضير لحركة احتجاج ضد تولي القيصر نيقولا الأول العرش بعد تنحي أخيه الأكبر قسطنطين عن ولاية العهد واستبدال الحكم القيصري بحكومة مؤقتة. وخلال الاجتماع، اتفق المتمردون على الالتقاء في ساحة العاصمة الرئيسَة واصطحاب جنودهم ليتظاهروا ويعلنوا عزمهم على عدم أداء القسم للقيصر الجديد ومطالبته بالتنحي.
تُظهِر لنا الرواية التناقض الفكري الواضح بين الثوار المبهورين بأفكار الجمهورية الفرنسية ومؤيدي الحكم القيصري، وهذا الاختلاف يظهر من خلال اللغة التي يستعملها كل معسكر للحديث عن الآخر، فالثوار يرون في نيقولا طاغية مستبداً يرفض القيام بالإصلاحات ويعتبرون حركتهم واجباً وطنياً ضرورياً لخلاص الأمَّة الروسية. أما المعسكر الآخر، فيعتبر الثوار مجرد ضباط مجانين ليبراليين وصبيان تافهين لا يدركون عاقبة أفعالهم.
من خلال الحوارات التي دارت بين الثوار، نبدأ رويداً رويداً باستكشاف أسباب الفشل، فنلاحظ اختلاف الآراء حول الخُطَّة المتبعة للانقلاب، فالجميع يدلو بدلوه من دون وجود مخطط واضح ومدروس؛ فالبعض يرغب بأن تنتقل فرق الجيش الرئيسَة من ثُكْنَة إلى أُخرى لتحفيز الفِرق الباقية على التمرد، إلى أن يجتمع عدد كاف من الجنود للسير إلى ميدان مجلس الشيوخ في سانت بطرسبرغ وإعلان رفض مبايعة الدوق الجديد كقيصر للبلاد. والبعض الآخر يفضل عدم إضاعة الوقت والتوجه مباشرة الى الميدان. والجدير بالذكر أنّ هذه الخطط العسكرية كلها كان يجري تداولها والتباحث بها فقط قبل ليلة واحدة من الانقلاب.
ويصف لنا الراوي اضطراب زعيم الثورة ومُنَظِرّها الشاعر ريلييف ليلة الانقلاب، فلقد ظهر هشاً ورقيقاً ولم يكن على مستوى الحدث، فلم تكن خطط الهجوم واضحة في ذهنه ولم يكن قادراً على وضع تصور معقول لما بعد الثورة. كما أنَّه كان يُعَوَّل كثيراً على انضمام قطعات الجيش إليهم من دون التأكد من ولائها التام للثوار، وفشله كقيادي ظهر واضحاً بعد القبض عليه، إذ انهار سريعاً في السجن وأعلن التوبة وطلب العفو من القيصر.
من أسباب الهزيمة أيضاً اللجوء إلى خداع الشعب الروسي وعدم مصارحته بحقيقة الوضع وإطلاعه على المطالب المحقَّة للثوار، ما جعل الجماهير تقف في اليوم التالي متفرجة على الحياد وتائهة بين المتآمرين ومؤيدي القيصر نيقولا، فالضباط الذين خطّطوا ينتمون جميعاً إلى طبقة النبلاء والأرستقراطية الروسية، ولم تكن ثورتهم نابعة من الشعب الروسي ومن الطبقات المسحوقة، ولم يسْعَ المتمردون على الإطلاق لإشراك الفلاحين والعمال في مخططاتهم لأنهم اعتبروا أنَّ التدخل الشعبي سوف يؤدي الى إشاعة الفوضى وسقوط الدولة في أيدي الرعاع. هكذا أدى غياب الدعم الجماهيري إلى إفقاد الحركة الاحتجاجية الزخم الضروري لإسقاط القيصر، كما يمكننا أن نضيف إلى أسباب الفشل علم السلطات الروسية المسبق بالمؤامرة بواسطة أحد أصدقاء الثوار الخونة وإصرار المتآمرين على العمل على الانقلاب وخوضه إلى النهاية رغم معرفتهم بأن القيصر أصبح مطَّلعاً على خطتهم لعزله عن العرش. الحقيقة أنّه رغمَ نواياهم الحسنة ورغبتهم الحقيقية في إصلاح النظام الحاكم ومنح دستور للشعب وإلغاء العبودية والامتيازات الطبقية، الا أنَّ هؤلاء الثوّار بدوا رومانسيين وخياليين في مطالبهم؛ فبعضهم كان يتخيل حصول الثورة من دون إراقة نقطة دَم واحدة ويحلم بانتقال سلمي للسلطة، ولم يدرك أنَّ الثورة ليست طريقاً مُعبداً بالورود والرياحين ودونها تعقيدات كثيرة والعنف الثوري هو عنصر أساسي في التغيير في معظم الثورات وإن لم نقل جميعها.
ولا يجب إغفال دور الدين هنا. لعبت المشاعر الدينية أيضاً دوراً كبيراً في توجيه الأحداث، فتم استبعاد فكرة اقتحام القصر من قبل معظم المتمردين أو اغتيال الدوق بسبب الهالة الدينية التي تحيط به، فقتل الحاكم اعتبره الثوار نوعاً من الهرطقة وعدم احترام للشرعية التي يمثلها الحاكم، فالتربية الدينية الصارمة التي تلقّاها هؤلاء جعلت من المستحيل عليهم الثورة فعلياً على شخص القيصر، فهم اعتادوا تقديسه ورفعه إلى منزلة شبه إلهية. لكن عند سقوط الضحية الأولى للثورة، أدرك نيقولا ورفاقه أنَّ ثورتهم الناصعة البريئة قد لُطخت بالدماء وأن لا عودة إلى الوراء وليس أمامهم سوى القتال حتى النصر أو الموت.
لا نغفل تعمّق وترسّخ الموروث الديني الذي يعتبر أن الدين هو الحلّ المطلق لجميع المشاكل السياسية


أما الفشل الحقيقي، فكان يوم الانقلاب. ظهرت نتائج التخطيط السيّئ على الأرض، فغالبية الفرق التي توقع المتآمرون انضمامها إليهم لم تحضر إلى ساحة سانت بطرسبرغ ولم يتعدَّ عدد الجنود المشاركين في الانقلاب بضع مئات، مع الإشارة إلى أنّ معظم هؤلاء الجنود أطاعوا الضباط من دون أن يعلموا دوافع التحرك الفعلي. وعندما سمعوا بكلمة دستور، ظنوا أنه اسم امرأة ولم يفقهوا معناه. وبعد ساعات من المفاوضات الفاشلة حاول خلالها القيصر عبر عدة مبعوثين دفعهم للاستسلام، قرّر قصفهم بالمدافع، فمات الكثير من الجنود وأُزهقت أرواح الكثيرين وانتهى الأمر بالمتمردين إلى الإعدام أو السجن ثم النفي إلى سيبيريا.
يُجري الكاتب على لسان البطل الرئيس نيقولا أوزاريف نقداً لتجربة الثورة ويحدد أحد أهم أسباب فشلها، فيتوصل إلى خلاصة مفادها أنَّ الجماهير لا يمكن أن تنتزع حريتها إلا إذا كان يقودها زعيم جبار يتمتع بالإرادة والتصميم والقسوة بالقدر الذي يتمتع به الحاكم، وأنَّ الزعيم يجب أن يكون إنسانياً في ما يتعلق بالأهداف التي ينبغي تحقيقها والوصول إليها، فظاً غير رحيم عند اختيار الطرق والوسائل التي يجب استخدامها؛ فالمتمردون فشلوا لأنه كانت تنقصهم قيادة قوية وواعية توجههم وشعب يسير خلفهم ليدعمهم.
رغم هزيمتهم المُدوية وفشل حركتهم، إلا أنَّ جماعة الديسمبريين كما أُطلق عليهم في ما بعد حفروا أسماءهم في تاريخ روسيا، وعنوان الرواية «مجد المهزومين» يُعبر بوضوح عن الخلود الذي تحقّق لهؤلاء الضباط وثورتهم التي قُمعت بفظاظة وعنف شديدين حرَّكَت المياه الراكدة وأيقظت الشعب وألهمت الأجيال اللاحقة من الثوريين. حتى إنّ الشاعر الشهير بوشكين الذي يؤيد أفكارهم كتب لأصدقائه المسجونين قصيدة تقول بعض أبياتها:
ثق يا رفيقي
بأن نجم الهناء سيبزغ
وستستيقظ روسيا من سباتها
وسنكتب أسماءنا
على أطلال سلطة الاستبداد
وإن كانت هذه الرواية قد تناولت حقبة تاريخية بعيدة عن تاريخ روسيا، ولكننا نجد بعد قرنين من الزمن أنَّ الأسباب هي ذاتها التي تعيق الثورات في عالمنا العربي من غياب قائد حازم للثوار إلى عدم وجود أهداف واضحة ومفهومة للسعي إلى تحقيقها، بالإضافة إلى غياب الدعم الشعبي القوي بسبب الاصطفافات المذهبية والدينية والقبائلية. ولا ننسَ انعدام التخطيط لما بعد الثورة ولمستقبل الوطن، ولا نغفل أيضاً تعمق وترسخ الموروث الديني في المجتمع العربي الذي يعتبر أن الدين هو الحل المطلق لجميع المشاكل السياسية. قراءة هذه الرواية ممتعة للغاية للمهتمين بالنوع التاريخي والسياسي، وهي فرصة لندرك أنّه لا بدَّ من وجود أقلية ترضى وهب حياتها في سبيل حرية البشرية والقضاء على الطغيان والطبقية في المجتمع.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا