عاد المخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار! بعد عرض فيلمه «ألم ومجد» في «مهرجان كانّ» السنة الفائتة، يمكن اعتبار رجوعه إلى «البندقية» بادرة امتنان تجاه المهرجان الذي منحه قبل عام جائزة الأسد الذهبي عن مجمل أعماله. صوت ألمودوفار واضح دوماً، وتصريحاته حادّة دائماً. خلال المؤتمر الصحافي لفيلمه الجديد القصير «الصوت البشري» (30 د) الذي يُعرض ضمن مسابقة «آفاق» في البندقية، صرخ المعلّم الإسباني: «السينما هي الترياق»، موضحاً أنّه «فور انتهاء الحجر، بدأت بتصوير هذا الفيلم، وفي الشهر المقبل سأبدأ بتصوير الفيلم التالي». وطالب بفتح الصالات السينمائية لأنّه «على الرغم من عدم اليقين الذي يحيط بنا، علينا أن نستمر في صناعة الأفلام، وفي الذهاب إلى السينما. الذهاب إلى السينما يعني بدء مغامرة. عليك أن ترتدي ملابسك، وتخرج، وتلتقي بأشخاص، وأخيراً تدخل مكاناً تشارك فيه مشاعرك، أمام شاشة كبيرة، محاط بالغرباء. إنّها تجربة أساسية على المستوى البشري».
تمنح تيلدا سوينتون الشخصية هشاشةً كبيرةً وفي الوقت نفسه قدرةً هائلة على القتال من أجل نفسها

ما نراه في شريط ألمودوفار الجديد، ليس مسرحياً تماماً ولكنه أيضاً ليس سينمائياً تماماً. هو تقاطع بين الاثنين. يصعب تحديده من حيث النسبة أو هيمنة الأول على الثاني. إنّه الفيلم الأول لألمودوفار باللغة الإنكليزية، مقتبس من مونودراما لجان كوكتو عُرضت للمرة الأولى قبل تسعة عقود. ألمودوفار مخلص جداً للنص الأصلي، حيث تتلقّى شخصية على شفير الجنون (لا نعرف اسمها وتؤديها تيلدا سوينتون في الفيلم) مكالمة من حبيبها السابق، الذي قرّر تركها. تشرع معه في الحديث عن حالتها النفسية في الأيام التي تلت رحيله. خلال الحديث، تتنقّل بين الكثير من الحالات المزاجية والنفسية. مونولوج كوكتو (لا نسمع حديث وصوت الحبيب) الذي قدّمه روبيرتو روسيليني في «الحب» (1948)، كان مرجعاً لألمودوفار لسنوات: كان مصدر إلهام لفيلم «نساء على حافة الانهيار العاطفي» (1988)، ولعب دوراً مهماً في فيلم «قانون الرغبة» (1987). ولأنه قدّمه كما يريد في فيلم كامل، قال ممازحاً: «أعتقد أنني لن أزعج نص كوكتو بعد اليوم».
مقدمة أوبرالية تفتتح الفيلم، نرى سوينتون تتجوّل في مستودع معدات صناعية، تشتري فأساً، وتعود إلى شقتها برفقة كلبها (كان كلب حبيبها) إلى بيت مزخرف بني داخل مستودع صناعي. من خلال الشرفة المليئة بالزهور، نرى جداراً خرسانياً. أقسام المنزل مصنوعة من الخشب الرقيق. الداخل هو كَون ألمودوفار الذي لا يمكن أن نخطئه. وفي الخارج كأننا أمام كواليس مسرح. مخلصاً لأسلوبه وتاريخه، يقدم ألمودوفار فيلماً مع ممثلة واحدة: ترتدي سوينتون الأسود النفاث، والأحمر العاطفي والأزرق الكوبالت، بالإضافة إلى رداء شرقي منقوش. قد تبدو كأنها لعبة هوية لشخصية متعدّدة الأوجه. امرأة ألمودوفار هنا هي امرأة قابلة للكسر، والألم، وضعفها مكشوف لكنّها لا تسلب كرامتها.
الغضب، اليأس، الشعور بالهجر والألم... هذه هي المشاعر السائدة في فيلم «الصوت البشري»


الغضب، اليأس، الشعور بالهجر والألم... هذه هي المشاعر السائدة في فيلم «الصوت البشري». مشاعر راوغنا بها المعلم الإسباني. مراوغة بين الداخل والخارج، بين الألوان الباردة والدافئة، بين الخيال والواقع، وبصورة سينمائية حيث يجيد المخرج وضع كل شيء في مكانه. ديكور الفيلم لا يختلف كثيراً عن ديكور فيلمه «ألم ومجد». يبدو كأنّه شخصي تماماً كفيلمه السابق. كل هذا يولّد تعاطفاً كبيراً تجاه الشخصية التي تمنحها سوينتون هشاشةً كبيرةً وفي الوقت نفسه قدرةً هائلة على القتال من أجل نفسها. يتم تقديم جميع المراحل المختلفة للانفصال العاطفي بشكل مثالي بواسطة: اليأس والألم والألم الجسدي، ثم الغضب، عدم القبول، الذي تتبعه محاولة عودة، وتبادل الذكريات، والصور، والأصوات. نعيش كلّ هذا عبر ردود أفعال شخصية فقط. سوياً مع الكلب، المهجور أيضاً والمستعد للبدء من جديد بجانب ذلك المخلوق الغريب الذي لا يمكن التنبؤ به. الفيلم استعارة مثالية لماهية الحياة، البحث الأبدي عن شريك لا يتحقّق بالبحث، بل بالترحيب به.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا