ثم انطفأت ثريا المسرح المغربي في منعطف غادر أُغلِقت فيه المسارح ودور العرض. في زمن كورونا. غادرت ثريا جبران. فنانة من طراز نادر. تألقت مع شيخها ومعلمها الطيب الصديقي، وفي أعماله تنبّه الجميع لموهبتها. شخصياً لا أنسى دورها في العمل البديع الذي اقتبسه الصديقي عن أبي حيان: «الإمتاع والمؤانسة». عملٌ أعدت مشاهدته أيام اجتمع علينا الحَجْرَانِ الصحي والرمضاني. أعدت مشاهدة المسرحية، فتذكرت ثريا وحضورها الجميل الطاغي على الركح. فهي فارسةٌ الخشبةُ مضمارُها.خلال التسعينيات، كانت شراكتها الفنية الخلاقة مع زوجها الفنان عبد الواحد عوزري من خلال «مسرح اليوم» تروق لي. من دون أن يكون التعارف قد حصل بيننا تلك الأيام، كنت أعتبر نفسي صديقاً للفرقة ولثريا جبران. كانت سيدة المسرح المغربي أيامها، تقريباً بلا منازع، وظلت نجمة لامعة في سمائه وستظل حتى بعدما خذلها جسدها اليوم وتخلى عنها في غفلة منا جميعاً.
في التسعينيات، كان «مسرح اليوم» قد صادف لحظته وأجاد التفاعل مع قلق المرحلة. تابعتُ عروض الفرقة في قاعة «سينما بالاص»، المأسوف عليها، هنا في مراكش. في الحي الجامعي في الرباط. في مركبات الدار البيضاء الثقافية، وفي العرائش - تصرّ ذاكرتي على أنها العرائش، رغم أن هناك من قال لي إن العرض كان في تطوان، حيث قدمت ثريا مسرحية «أربع ساعات في شاتيلا» لجان جينيه. كنت حينها أشتغل في «الحياة» اللندنية، وذهبت حتى العرائش لأحضر عرضاً مرتجلاً لمسرحية جينيه وأكتب عنه للجريدة. ذهبت من أجل ثريا ومن أجل جينيه. وحضرت عرض مسرحية جينيه هناك في مدينته حيث يرقد بسلام في المقبرة الإسبانية. وكانت ثريا في الموعد. كعادتها. ثريا جبران صديقة الأدباء الحقيقيين. مَن غيرُها يتجرأ على نص صعب لجينيه ضمَّنه تضامنه مع فلسطين وقضيتها العادلة، وشهادته على المجزرة التي اقترفها الصهاينة في حق اللاجئين الفلسطينيين في مخيم شاتيلا في لبنان؟ ثم مَن غيرها نجح في إعادة عبد اللطيف اللعبي إلى الخشبة؟ في «الشمس تحتضر»، احتضنت قصائد الشاعر المغربي الكبير بحدب ورُقيّ. لكنها تذكرت أن اللعبي كان ممثلاً مسرحياً في بداية عنفوانه، فأعادته إلى الخشبة. استعادته ليقف إلى جانبها على الخشبة نفسها. وكانت «الشمس تحتضر» من أقوى التحايا التي وجهها المسرح في بلادنا للقصيدة المغربية المعاصرة.
آخر مسرحية شاهدتُها لثريا جبران كانت على شاشة التلفزيون. ليس من عادتي مشاهدة المسرح على شاشة التلفزيون. المسرح فن حي ومشاهدته يجب أن تكون حية. لكن تلك السهرة كانت استثناء. فرجة لم تكن في الحسبان. بالصدفة فقط على شاشة «المغربية» مباشرة بعد الأخبار، صعد الجينريك معلناً عن مسرحية «إيمتى نبداو إيمتى؟». عمل قديم لـ «مسرح اليوم». لكنه من الأعمال القليلة التي فاتني أن أتابعها لهذه الفرقة. العمل من إنتاج 1998، من تأليف الجزائري امحمد بنكَطاف، إخراج عبد الواحد عوزري، موسيقى وأغاني مولاي عبد العزيز الطاهري، وتمثيل: الراحل محمد الكغاط، المطرب البشير عبدو وطبعاً ثريا جبران في قلب الخشبة وفي قلب العرض تماماً كما يجدر بثريا لألاءَة.
تقمصت ثريا يومها دور ممثلة تعشق المسرح العالمي وتحفظ الكثير من نصوصه وتحلم بأن تؤدي يوماً دور هاملت، لكنها وجدت نفسها مجبرة على لعب مسرحية محلية «مابغاتش تتحفظ ليها» لمؤلف اسمه بن.. بن.. بنكَطاف «حتى هو ما بغاتش تتحفظ ليها سميتو». المسرحية ليست سوى تمارين مسرحية عن مارية الفتاة المنشغلة تماماً عن العالم بشكاية تريدها جامعةًَ مانعة لتحمي بيتها الذي يريد جارُها الوزير السطو عليه ليقيم فيه مسبحاً لأطفاله.
كلما انطلقت التدريبات، جاء مدير القاعة ليطلب منهم إخلاءها: فاجتماعات الأحزاب والنقابات و«الباطرونا» زحفت على المسارح ودور الثقافة. وكل مرة «كانوا كايبداو» من جديد. وفي كل مرة يُطردون من جديد بسبب اجتماع جديد. ولم يبقَ أمام الفرقة سوى المقبرة لتواصل تدريباتها وسط سكينة الموتى.
لكن ثريا لم تستسلم قط. فواصلت ليس تداريبها فقط، بل نضالها أيضاً. الممثلة التي تعرضت للاختطاف أيام إدريس البصري وهي في طريقها إلى بلاتوه القناة الثانية للمشاركة في البرنامج الحواري الجريء «رجل الساعة» الذي كانت تتحفنا به تلك الأيام إعلامية كبيرة اسمها فاطمة الوكيلي... الممثلة التي تعرضت للاختطاف والتعذيب وحلق شعر الرأس لم تستسلم. بل عادت لتصرخ بصوت أقوى فوق الخشبة، وتقول جهراً ما كنا نردده في السر.
لكن مصادفات خاصة جعلتها تنتقل من موقع إلى آخر لتجد نفسها وزيرة للثقافة. الصحافة المغربية تعاملت مع تعيينها وزيرةً بـ«حفاوة» من نوع خاص. لم يكن الاستقبال ودياً على الإطلاق! قد يكون السبب الأوّل حضور الوزيرة المكثف على الساحة الفنية، إذ كانت قد عادت حينها إلى الواجهة في فيلمين دفعةً واحدةً («أرغانة» لحسن غنجة، و«عود الورد» للحسن زينون) إضافة إلى سلسلتها التلفزيونية الفكاهية «المعنى عليك يا المغمض عينيك» التي كانت تبث حينها على قناة «دوزيم». ومن المؤسف أنّ زميلاً لها في الحكومة اسمه خالد الناصري كان وزيراً للإعلام وناطقاً رسمياً باسم الحكومة تعامل معها بالكثير من العجرفة. حتى أنه سعى إلى إيقاف بثّ المسلسل على أساس أنّ الأدوار الهزلية التي تؤديها ثريا، بطلة المسلسل، قد تؤثر في صورتها وزيرةً، وقد يتضرّر منها الأداء الحكومي. هذا الاقتراح رفضته ثريا، معتبرةً أنّ نظرة هذا الوزير - المحسوب مع الأسف على حزب يساري تقدمي- إلى فن التمثيل شديدة السطحية، موضحة أن سلسلتها الفكاهية عمل إبداعي ينبع من هموم المجتمع. قبل أن تضيف أن عملها يمكن أن يساعد أفراد الحكومة في النزول من أبراجهم العاجية، والاقتراب من نبض الشارع، لكن وزير الإعلام رد بأن توضيحات زميلته «شعبوية أكثر من اللازم». طبعاً هذه تهمة أخرى استقاها الناطق الرسمي للحكومة -الرسمي أكثر مما ينبغي- من بعض الصحف التي تخصصت في وصف ثريا جبران بالشعبوية. أما هي، فكانت ترى نفسها ابنة الشعب، وتقدم نفسها كوزيرة «بنت الشعب» وكانت تفخر بذلك.
لعل عدم تمتّع ثريا جبران بشهادات عليا كانت من الحجج التي استُعمِلت ضدّها من الأطراف التي لم تستسِغ دخولها الحكومة، على رغم أننا تلك الأيام كنا نعتبر رصيدها الفني والمسرحي أكبر من الشهادات. يكفي أنه أهّلها تلك الأيام للحصول على وسام الاستحقاق الوطني ووسام الجمهورية الفرنسية للفنون والآداب من درجة فارس.
لكن ثريا ظلت متعالية عن كل هذه الصغائر. خدمت المشهد الثقافي المغربي بطريقتها وأسلوبها. أسلوب كان البعض يجده شعبوياً، لكنني كنت أجده شعبياً إنسانياً بسيطاً، يشبهها ويشبه شخصيتها. كانت تتألم للفنانين وتقف معهم في أزماتهم. وهي كانت دائماً هكذا. لا أنسى قط أن أول لقاء مباشر لي بثريا جبران حصل في مراكش سنة 1995، يوم رحيل الفنان المراكشي محمد أبو الصواب. رافقنا جنازة أبو الصواب من بيت أسرته في حي أزلي حتى مقبرة باب اغمات. وحين ولجنا المقبرة، دخل الرجال وحدهم. هكذا ظننت. وبهذا جرت العادة. قبل أن أتنبه ونحن نُودِع جثمان الراحل إلى مثواه الأخير أن امرأة حزينة كانت تقف بالقرب مني داخل المقبرة. امرأة أعرفها. اسمها ثريا جبران. ولجت المقبرة برأس حسير، لكن حزنها الجليل غطى على كل شيء.
ثريا جبران امرأة من طراز خاص. لكنها امرأة ونصف. حين كانت وزيرة للثقافة، زرناها مرة أنا وإدريس الخوري وأصدقاء آخرين. كان معنا زوجها المخرج الكبير عبد الواحد عوزري. ولمن يعرف عوزري والخوري يمكنه أن يتخيل شقاوتهما. لكن ثريا التي استضافتنا على الغداء، وكانت قد عادت للتو من الوزارة، سرعان ما تحولت من وزيرة إلى ربة بيت مغربية. تخدمنا بنفسها، متحملة بروحٍ فيها الكثير من السماحة، شقاوات زوج منفلت وضيوف مشاكسين.
التقيتُ ثريا جبران وهي وزيرة للثقافة يوم افتتاح معرض الكتاب، فاقترحت عليها أن نسجل حلقة من «مشارف». جرت العادة أن نستضيف أنا والزميل أحمد النجم في برنامج «مشارف» وزراء الثقافة في أول أيام المعرض في حلقة تذاع خلال الأسبوع ذاته يقدمون خلالها برنامج المعرض لجمهور الثقافة في بلادنا ويتحدثون عن خطوطه العريضة. لكن ثريا أجابتني: «أفضل أن تستضيف مدير الكتاب في الوزارة، مدير المعرض، أو أحد الناشرين. إنهم يعرفون أفضل مني. وسيتحدثون بشكل أفضل مما سأفعل. لكن إذا أردت أن تسعدني بشكل شخصي فاستضف لنا أحمد فؤاد نجم». كان «أبو النجوم» نجم ضيوف تلك الدورة. وكانت ثريا تعشقه. لهذا عاملته كضيف فوق العادة، وكانت تنقله بنفسها إلى المعرض، بسيارتها. وبدوري استضفته في حلقة ما زالت متوفرة على اليوتيوب. استضفته بمحبة لأنه نجم، ولأنني من قرائه وعشاق تجربته، ولكن أيضاً من أجل ثريا جبران.
يؤسفني أن الشباب اليوم لا يعرفون هذه المرأة، لم يروها تصول وتجول على خشبات المسارح. فما الذي يمكننا فعله ليعرف الجيل الجديد لماذا نحترم ثريا جبران ونكنُّ لها كل هذا التقدير، ولماذا نحن حزينون هكذا لرحيلها؟ ماذا يمكن للتلفزيون أن يقدم اليوم لثريا ولذاكرة ثريا: ذاكرتنا المسرحية الثرة؟
أما أنا فسأعود إلى اليوتيوب لأعيد مشاهدة مسرحية بوغابة.. رغم رداءة التسجيل.
رحم الله ثريا المسرح المغربي المنيرة. رحم الله ثريا جبران.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا