التضامن العالمي الاستثنائي مع كارثة بيروت سببه استثنائية هذه الكارثة. شهدنا كل أنواع التضامن، ومعظمها قد يحتمل ملاحظات يطال بعضها خبايا خطيرة، إلّا التضامن الموسيقي أتى على مستوى فنيّ عالٍ. ففي ذكرى مرور شهر على الانفجار، تستضيف باريس حدثاً واضحاً بجماله وبقيمته، من شأنه أن يحجِّم كل ردّود الأفعال الموسيقية المحلّية الرخيصة أخلاقياً وفنّياً. التضامن الموسيقي مع صورة لن تُمحى من الذاكرة، إما يكون بأعمال لا تُمحى من التاريخ أو لا يكون. على هذا القدر من المستوى الجمالي، يأتي برنامج الأمسية الفرنسية في 4 أيلول (سبتمبر). إنها «تحية إلى الشعب اللبناني»، بمبادرة من «الجوقة العالمية» التي أسسها ويديرها قائد الأوركسترا والمغني (باريتون/ باص) الفرنسي أوغ راينر، وتقام في كنيسة Saint Sulpice (س: 22:00 بتوقيت بيروت) بمشاركة 200 موسيقي ومنشِد، بالإضافة إلى مغنين منفردين، من بينهم السوبرانو اللبنانية ريما طويل.
تحتوي الحفلة على أربعة أعمال. فكما هي الحال عند وقوع كارثة كبيرة، في أي مكان من العالم، الأولوية تكون دائماً لـ «القدّاس الجنائزي» الذي بدأه ولم ينهِه موزار على فراش الموت. هذه التحفة تمثّل ألم البشرية، وهذا هو الجانب الرثائي الأممي من البرنامج. العمل الثاني هو السمفونية السابعة لبيتهوفن. هنا، نحن أمام رثاء لبيروت وعزاء للمؤلف الألماني الذي أطاح كورونا بعام 2020 الذي كان مخصصاً للاحتفال بذكرى ولادته الـ 250. لكن السابعة ليست أي عمل لبيتهوفن. فهي تحمل، في حركتها الثانية، تطوافاً جنائزياً (لكن غَير المُعلَن كما في السمفونية الثالثة، التي كان يمكن أن تشكّل خياراً بديلاً للمنظّمين)، وانتفاضة شرسة في ختامها (الحركة الرابعة). البعد الثالث ممثَّل بالبلد المبادِر إلى التحية التضامنية، أي فرنسا، والخيار وقع على عمل ديني شهير وقصير (أقل من خمس دقائق) للمؤلف سيزار فرانك، بعنوان Panis Angelicus (قوت الملائكة). فرانك فرنسي، من أصل بلجيكي، عاش ودرس في باريس، وهو أحد أكبر المؤلفين في فرنسا النصف الثاني من القرن 19. يبقى البعد الرابع، وهو يخصّ الجهة المنكوبة، والخيار الطبيعي فنّياً، كي يتناسب مع المستوى العام للبرنامج، وقع على المؤلّف الأكثر جدية وموهبة في بلادنا، زياد الرحباني. أدرج المنظّمون من ريبرتواره عملاً دينياً قديماً، يعود إلى مراهقته، أيام الإشراف على جوقة كنيسة مار الياس في أنطلياس قبل الحرب الأهلية، وهو لصوت نسائي منفرد وجوقة، مع مرافقة موسيقية أوركسترالية. إنّها التنويعات الجميلة على لحن «كيرياليسون» التراثي الكنسي، بتوزيع عام مبنيّ على قواعد التأليف الكلاسيكية الغربية، وهو من أجمل ما قدّمه زياد في بداياته.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا