ماذا لو كان المكان الذي نعيش فيه الآن مختلفاً كلياً عن ذاك الذي نريد في قرارة أنفسنا أن نكون فيه؟ ماذا لو كانت الأشياء التي نتوق إليها موجودة في مكان آخر؟ في ماض يسكننا، وكل ما لدينا الآن هو ذاكرة المكان؟ قد نتذكر فقط لمحات عن المكان، انطباعات عنه: علامة، رائحة، ابتسامة، تعبير، فعل، حدث أو كلمة. تتضافر هذه العناصر في ذاكرتنا، نشعر بطريقة عجائبية أنّنا بتنا بين جدران منزلنا، بينما في الحقيقة نحن عالقون في مكان لا ننتمي إليه. هي مشكلة المنفى، التشرد، البعد والغربة... وحدها القدرة على تذكر خصوصية المكان الذي انتمينا إليه يوماً تبعث فينا روح الحالة الجميلة التي عشناها يوماً. قد نشعر بالهلع أو الخوف، بسبب انفصالنا (الممتع) عن الواقع الذي نعيشه الآن، وتوقنا القاتل إلى مجهول لا يمكن الوصول إليه سوى بالذاكرة. هذا هو العامود الفقري لفيلم «المرآة» (1975) للمخرج الروسي أندريه تاركوفسكي (1932 ــــ 1986). شريط عن فقدان الطفولة ومحاولة بنائها مجدداً في الذاكرة، عن فلسفة الزمان والمكان، عن استعادة الذكريات وأهميتها، عن محورية الأحداث التي تمر في حياتنا وتحدّد ماهيتنا كأفراد.في «المرآة»، يقدّم المخرج الروسي حياته بصدقٍ وشفافية، يبعثها من الذاكرة لتُترجم في شكل بصري. لم يذهب إلى الماورائيات، بل إنّ الفيلم متواضع جداً في هدفه: ««المرآة» لا يحتوي على أي معنى مشفر أو مخفي.. لم يكن هناك شيء وراءه إلا قول الحقيقة» قالها تاركوفسكي يوماً. إذا، الشريط تظهير لحياة المخرج مع زوجته، والدته، والده وابنه... نجد هُوات فيه، فهو ليس مترابطاً أو متراصاً، بل تنحرف الجداول الزمنية والأحداث بطريقة سرد غير مستقيمة.. إنه تماماً كالذاكرة التي تقفز من مكان إلى مكان، ومن حدث إلى آخر قبل وخلال وبعد الحرب العالمية الثانية.
يتألف الفيلم من حلقات طويلة، وأحلام وذكريات غير مترابطة. تفاوت في الألوان، أبيض أسود وبني داكن، مواد وثائقية، قصائد والد تاركوفسكي، وموسيقى باخ، بيرغوليزي وهنري بورسيل. حتى اللغات تختلط، الروسية مع قليل من الإسبانية.
«المرآة» تجربة مرئية بصرية قصائدية موسيقية عميقة، رحلة شخصية في أعماق المخرج العظيم. كل شيء فيه يحمل جديةً نادرة، الماضي بكل ثقله يتعايش مع الحاضر. «المرآة» هو خريطة عاطفية، ألبوم ذكريات عائلية شخصية، لغز عاطفي وهذا هو تاركوفسكي الذي يربط جمهوره من خلال الإدراك الحسي.
الفيلم خريطة عاطفية، وألبوم ذكريات عائلية شخصية


إنّه فيلم مربك بلا شك، يعمل وفقاً لتاركوفسكي تماماً مثل المرآة. بمجرد النظر إلى المرآة نبصر الانعكاس، وفي كل مرة نغوص بعمق على اختلاف طرق الرؤية. الماضي والحاضر والمستقبل، الذكريات، الشعور بالذنب، الجمال، الحزن والحنين... كلها دواخل غير ملموسة ولكننا نبصرها في المرآة.
بعيداً عن الجمالية البصرية، «المرآة» هو ثقة المخرج العمياء بالسينما، بأنها الوسيلة المثلى لعكس الحياة، لا بل بأنّها الحياة نفسها. بدأ المبدع الروسي فيلمه من دون أن يعرف أين ستأخذه النهاية، أراد تلمّسها خلال صناعة الشريط. النهاية مجهولة دائماً، لكن لا بدّ من أن تتكشّف تباعاً، ثم تنعكس في المرآة بكامل نقاوتها.

* The Mirror على موبي بدءاً من الأول من أيلول (سبتمبر)

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا