لن نقول إنّها تميزت بدورها الفعال في القضية الفلسطينية منذ البداية، فالمرأة ـــ في القضايا كافة ـــ شريكة مباشرة في العملية الاجتماعية والسياسية في الوطن، ممثلةً نصف النسيج الواجبة عليه فعاليته، كباقي أطياف المجتمع. شاركت المرأة في التصدي للهجمة الصهيونية الاستعمارية التي تمثلت بداية في هجرة أعداد كبيرة من اليهود إلى أرض فلسطين، كما التصدي ورفض الاستحواذ على الأراضي. ومنذ منتصف عام 1914، عندما نشطت اللجان والمؤسسات الوطنية والخيرية في القدس وغيرها من المناطق بصدد مقاومة المد الصهيوني في فلسطين ودعم التعليم ونشره ومساندة الصناعات الوطنية، قامت النساء الفلسطينيات بتأسيس «جمعية الإحسان العام» و«جمعية يقظة الفتاة العربية». رسمت المرأة الفلسطينية مشاهد بطولية جنباً إلى جنب مع الرجل في مقاومة المحتل بكل ما امتلكته من قوة وبمشاهد بطولية خالدة عبر كامل محطات تاريخ القضية الفلسطينية. ولم يقتصر نضالها على أرض المعركة المباشر فقط، بل لعبت أدواراً في الحقل الفكري الثقافي والاجتماعي كما العسكري والسياسي، وفي تربية أجيال من المناضلين والثوار والأحرار والأسرى والشهداء.

مخلص نابلسي (2015)

وهي قادت العديد من العمليات الفدائية ونفذتها، وعانت من الأسر وما زالت. فخاضت وما زالت تخوض أدواراً عديدة من مُقاوِمة وأسيرة وشهيدة وفدائية إلى أم مقاومين وأم شهداء وأم أسرى. حتى أسست لنفسها أرضية موازية لشركاء الوطن بل مضاهية أحياناً، رغم رفضي للمقارنات الجندرية من الأساس حتى لو إيجاباً، لأنّ المرأة ــ للطبيعة البديهية ـــ هي شريك مواز عليها واجبات ولها حقوق كباقي أطياف المجتمع العام.
لكن علينا الاعتراف آسفين، يبدو أن الانشغال بتفاصيل القضية الفلسطينية في الداخل (أي داخل فلسطين كاملة من أم الرشراش حتى الناقورة) والخارج، غيّب أو لم يُظهر أهمية الصحة الاجتماعية كأساس للأرضية المبتغاة. ويبدو أن الخجل من الحديث عن تدهور مكانة المرأة في خضم قضية ضخمة لا يمكننا فيها الحديث إلّا عن بطولات أفرادها من دون التطرق إلى العيوب، أهمل الاعتراف بالمشكلة، وبالتالي البحث عن الحل. نعم، فالحال ليست بأحسن حال، ونعم، فجزء من النساء الفلسطينيات اليوم لا يحظين بالحرية الشخصية والاجتماعية اللازمة، للالتفات إلى القضية الأم والأساس، عوضاً عن التحوير الحاصل بحق اهتماماتهن وأفكارهن وحدودهن وقضاياهن، الذي شغل جزءاً منهن عن الفكر السياسي والتفاعل بسلاسة كما كنا يفعلن في الماضي.
يمكننا القول بأن محاولات القمع أجبرت المرأة الفلسطينية على حمل لواء قضيتين مقاومتين: الأولى متمثلة في مقاومة اجتماعية والثانية سياسية، ودون الأولى لا يمكنها تحقيق الثانية. فكم هو ظالم بحقها أن تتم قولبتها في أطر ليست هي صانعتها، للحد من حريتها وإبراز شخصية الآخر على حسابها. فلا يليق بالمرأة عامة والفلسطينية خاصة في ظل الحالة الاستعمارية التي نعيشها وكنسيج يشكل أكثر من نصف المجتمع، إلا أن تكون حرة الأفعال. فلا وجود لوطن حر إلا بنساء أحرار! أحرار التفكير والقلب والعمل والاجتهاد والتطبيق من دون وصاية! وكم هو مجحف بحق الجنسين، إضاعة مجهود وطاقة كل منهما لمجابهة الآخر عوضاً عن استغلال الطاقة نفسها للانفكاك عن الحالة الاستعمارية القائمة. وكونه من المستحيل فصل حالة العنف هذه عن سياقها الاستعماري، يمكننا فهم القمع الممارس كنتيجة لشخصية مقموعة تحاول ممارسة قمعها على من ترى أنّه أضعف منها، خصوصاً في ظل اعتقادها بعدم امتلاك أدوات الخلاص من قامعها المستعمِر، بالإضافة إلى المشاعر الشخصية الدونية التي تشكلت لديها وتسعى لإثبات ذاتها وإعادة اعتبارها بتسلطها الوهمي على من استطاعت إليه سبيلاً بمساعدة التربية الذكورية. وللسبب نفسه، نجد أن المرأة مشمولة ضمن سياق المقموع الذي سيحاول ممارسة القمع على من يستضعفه سواء امرأة أخرى أو أطفال، ويمكن ترجمته بتعزيزها للتربية الذكورية التي ستكمل القمع في ما بعد. لكن كما للاحتلال تأثير على شخصية المستعمَر وبالتالي هو مسبّب للعديد من المشكلات والأمراض الاجتماعية، فالأمراض الاجتماعية أساس وأرضية لاحتلال أفضل... لنجد أنفسنا في دائرة قمع وعنف مغلقة لا يمكن الفكاك منها إلا بحلّ الاستعمار أو بمحاولة فهم السبب والنتيجة واللعب على التربية في ظل ضعفنا في حل المشكلة الأساس، حتى تحقيق التحرير. فعلى الدائرة أن تفرط لحلحلة مسارها وتعطيل الخدمات التي تقدمها الأمراض الاجتماعية للاحتلال.
بداية، يجب علينا الاعتراف بأنّ هناك رهاب حرية امرأة يجب مقاومته ومحاربته! ولن يكون تطرفاً إن قلت وبشتى الوسائل. فالحالة المزرية التي نعيشها اليوم، ولا يراها كثيرون، ليست أفضل ما يليق بالإناث أن يعشنه! نعيش اليوم حالة اضطهاد مروع للأنثى في مجتمعاتنا، تحت غطاء الشرف والسلطة، بدعم وحماية مجتمع ذكوري، بالإضافة إلى وُجهاء يتمثلون في عقليات قَبَلية لا تدعم إلا أفكاراً رجعية بالية تحط من شأن المرأة وتحتقرها. كما أن انشغال الذكر بقضاياها وحملِهِ لـ «عبء» أفكارها، وأفعالها انتهاء بأعضائها، أضاع بوصلته وشغله عن واجباته الخاصة والوطنية، في مقابل انشغال الأنثى بقضايا ثانوية. أمر أضاع طاقة نصف المجتمع على الدفاع عن قضاياه الخاصة وحماية نفسه من النصف الثاني، عوضاً عن تجنيد طاقة المجتمع باتجاه واحد أسمى من كامل القضايا التي كان علينا تجاوزها منذ سنوات كثيرة مضت. نشهد اليوم تحويراً قوياً للبوصلة. نشهد قمعاً بل دفناً ممنهجاً للمرأة، يبدأ بالحالة الاستعمارية التي نعيشها ويكمل ببذور التربية الذكورية التي تغذيها الأنثى نفسها للأسف في أطفالها، إلى أن نصل إلى سلطة وقمع وعنف. فالمرأة اليوم هي الشرف والعرض والعار والذل والكرامة، عفواً، أعضاؤها كذلك. نتفاخر بالمرأة الفلسطينية ونقمعها، نتفاخر بمقاومتها وانجابها وتربيتها للثوار والمقاومين والشهداء ونقمعها! نُعلي من شأنها، عند الضرورة لتصوير بطولات الشخصية الفلسطينية المقاومة، وفي المقابل نقتلها ألف مرة طيلة مشوارها التحرري.
قضايا المرأة فاتحة لقضايا أخرى اجتماعية مركزية مثيرة للجدل، فيبدو أننا وصلنا إلى مرحلة تطرف فكري اجتماعي عرفي ديني. ولمحاولة حل أحادية التطرف هذا، لا بد من «تطرف» نسبي مقابل لإعادة توازن المجتمع. ولا نقصد التطرف بحرفيته بل نسبياً، فأي فكرة مضادة لفكرة المتطرف العنيف، يسهل جداً اعتبارها تطرفاً من قبل المتطرف. عند غياب المنطق في ظل هيمنة مسلمات ووسائل حوار غير متوازية، كفرض ماورائيات واحتكار موضوعات لجهات دون غيرها ومنع حرية السؤال والاستفسار، وفي ظل غياب قوانين حماية الأسرة وعند الوصول إلى محك تطرفي يتعدى على حريات الآخرين، لا يعد قرار المواجهة خياراً. فاذا تطرفت جهة، على الجهة المقابلة أن تقف وقفة قوية في مواجهة هذا المد التطرفي، حتى نستطيع في مرحلة مقبلة إعادة التوازن المنطقي في كافة المجتمع لرسم مناقب اجتماعية جديدة عامة تقوم على احترام تنوع الأفكار وتضمن حرية كافة أفراد المجتمع.
منذ منتصف 1914، لعبت دوراً نشطاً في مقاومة المد الصهيوني في فلسطين


عنف التطرف لا يمكن مجابهته الا بعنف أفكار مواز له، عنف أفكار ليس له حدود، فلا حدود لأفكار العقل. ونقصد بعنف أفكار أي سيول أفكار لا تولي اهتماماً لمحرمات أفكار المتطرف. تحاول فرض وجودها، لا تقف وقفات خجولة في ظل ذروة أفكار التطرف. فالتطرف الذي هيمن على مجتمعنا اليوم، بلغ ذروته، ولا اعتقد أنّ هناك أبعد ما يمكن أن يصل إليه الدين الاجتماعي الفئوي اليوم. الدين الاجتماعي المتمثل في المعتقدات التي تؤمن بها فئة من المجتمع ويكون أثرها أقوى من الدين «السماوي» أحياناً كالعادات والتقاليد والأعراف المستندة في جزئيتها على نصوص سماوية ما ورائية وأخرى أرضية، وتحاول فرض قوانينها على المجتمع ككل. فنحن اليوم، بحاجة إلى منظومة قيم جامعة غير اقصائية، للخروج من حالة الالتباس والاغتراب الذي نعيشه، وللتخلص من حالة الحساب اليومي من آلهة متجولين على الأرض. لذلك، حان الوقت اليوم لثورة اجتماعية، تطرح كافة الأفكار من دون قلق من حدود وهمية، والتعاضد بين أصحاب الفكرة الواحدة للوصول إلى شكل متوازن في المجتمع. علينا العمل على إشغال الوعي والفكر وردع الخوف والتردد، لأنّ الثورة ما لم تكتمل في خيال الثوار أولاً، فإنها لا تكتمل على الأرض.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا