«إذا كان هذا خير العوالم الممكنة، فمتى تكون العوالم الأخرى؟» يسألُ كانديد، الشّخصية المتفائلة التي تؤمن بالأمل في هذا العالم الكارثي والتي اخترعها الأديب الفرنسي فولتير في رواية تحملُ الاسم نفسه حتى يردّ على أحد مفكّري عصر التنوير آنذاك، جان جاك روسّو بعد مراسلاتٍ كثيرة بينهما. ينتقدُ فولتير في الرواية فلسفة التّفاؤل التي كان أحد رموزها الفيلسوف الألماني لايبنتز. فقد كتب الرواية بعد زلزال لشبونة عام 1755، الذي دمّر المدينة بشكل كامل، وأعقب الزلزال تسونامي وحرائق وتسبّب في مقتل مئة ألف إنسان. وقد أحدث الزلزال أيضاً أزمة وجودية ونقاشاً حادّاً بين فلاسفة التّنوير حول معضلة الشّر. فقد آمن لايبنتز أنّ عالمنا يسير دائماً إلى الأفضل رغم كل الشّرور والكوارث التي تحيطُ بنا، وهذا ما رفضه فولتير في الرّواية بشدة.
كتب فولتير الرواية حتى يردّ على أحد مفكّري عصر التنوير آنذاك، جان جاك روسّو بعد مراسلاتٍ كثيرة بينهما

لكن فولتير لم يكن متشائما كلياً، كأنه يتّفق فكرياً مع أنطونيو غرامشي في جملته الشّهيرة «تشاؤم العقل، تفاؤل الإرادة». فقد خلق فولتير في روايته شخصيّتين متناقضتين: كانديد الذي تعلّم على يد معلّمه بانغلوس فلسفة التّفاؤل ورؤية هذا العالم كأفضل العوالم الممكنة، ومارتن المتشائم الذي يرى أن الشّر يملأُ العالم وأن النّاس بؤساء وسيبقون كذلك. وخلق هذا الحوار الفلسفي بينهما على طول الرواية، فكأنّ ما يحتاج له كانديد المتفائل هو صديق متشائم يجعل رحلته تتوازن وتستقر في النهاية عند نقطة مشتركة يجعلها فولتير جوهر نقده للتفاؤل.
طُرد كانديد من قصر البارون لأنّه كان يعشقُ ابنته كونيغوند، فهربَ إلى قرية بعيدة، وانتقل من مكانٍ إلى آخر ومن بلد إلى آخر، وبدأت المصائب تنهال عليه ابتداءً بإبادة البلغار للقرية التي هرب إليها، مروراً بزلزال لشبونة، وصولاً إلى موت صديقه بانغلوس. لكن كانديد يبقى متفائلاً، ويعلم أن كونيغوند لا تزال حية، فيضع هدفاً لحياته بأن يتزوج منها، لتتوالى رحلاته حتى يفوز بها في النهاية.
تبدو قصّة الحب تلك مفتاحاً ليفتحَ فولتير باب الحوار الفلسفي على أسئلة أخرى، فكانديد يتمسك بكونيغوند كما يتمسّك بالأمل، ويجعلها وجهة له في كل مرة يتعرض فيها للأهوال، التي يصوّرها فولتير بأسلوب ساخر، فنشعر كأن العالم يغرق في الجثث التي تتقطع وتترامى والبشر الذين يقسمون نصفين، والسفن التي تغرق. لكن في نهاية تلك الكوارث، يستقرّ الجميع في مكان واحد لأن فولتير لا يرى أن الشّرور تستمرّ إلى الأبد لكنها موجودة بطبيعة الحال، والسخرية بذاتها هي موقف متشائم يقف بعيداً ويذكرنا بسوداوية الواقع وكارثيته.
وهكذا تظهر الشخصيات التي تساعد كانديد في تخطي أزماته كل مرة تباعاً، من بانغلوس الذي علمه التفاؤل، إلى جاك، إلى العجوز، وتتكشّف قصص هذه الشّخصيات، لأنّ سرد القصص هو من الأهمية التي تجعل الكارثة أخف بنظر فولتير الذي يذكر على لسان شخصية العجوز أنها رغم ما مرت به من مآسٍ، إلّا أنها تستمع للقصص لأن هذا ما يجعلها تتعلق بالحياة أكثر. القصة مصاحبة للكارثة في الرواية، كما كان الأمل مصاحباً لكانديد ولأصدقائه الذين شاركوه رواية مآسيهم. ولكن الشخصيات التي تموت، تعود مجدّداً كإشارة إلى أنّها شخصيّات رمزية تعود إلى الحياة لأن تأثيرها في ذهن كانديد كان قوياً مثل معلمه بانغلوس الذي قتل ثم التقى به مرة أخرى وكونيغوند التي يلتقي فيها كانديد في النهاية.
يصل كانديد إلى بلاد متخيلة اسمها ألدورادو، وهي شبيهة بالمدينة الفاضلة، لا سجون فيها ولا محاكم تفتيش ولا ظلم، فقط مبانٍ وأشجار وعيون ماء الورد والذهب الذي يملأ الشوارع. ورغم ثقة كانديد بأن هذا هو أفضل العوالم الممكنة الذي كان يتحدث عنه معلمه بانغلوس، إلا أنه شعر أنه ليس هو المكان الذي يريد أن يكون فيه، فهو لا شيء بدون حبيبته كونيغوند. إذاً، فإن اختراع فولتير لهذا المكان يُظهر نقده الحاد للتفاؤل بأن كل شيء سيتّجه نحو الأفضل، فحتّى هذا المكان الجميل ليس جميلاً في الحقيقة لأنه ناقص بدون حب، وإن هذا النّقصان هو ما يحرّك كانديد للذهاب إلى الأمام.
وهكذا يتصاعد خط السرد في الرواية حتى يتعرف كانديد إلى مارتن المتشائم، الذي يبدو أنه رفيق كانديد لكنّهما ليسا متّفقين. حتّى في الثقافة والشعر والفن، يعبّر كانديد عن إعجابه واحترامه للشّعراء الألمان. أما مارتن، فكان ينتقدهم ويعبّر عن لاجدوى الفنّ والشّعر في العالم. لم يترك الاثنان موضوعاً إلّا وتجادلا فيه لترتفع وتيرة الحوار في النّهاية وتصل إلى نقطة واحدة لتصبح هي الخيط الذي يجمعهم جميعاً.
أما صداقة كانديد ومارتن أثناء السّفر، فهي شبيهة برفقة جلجامش وأنكيدو في ملحمة جلجامش، والرحلة أيضاً تتشابه في أنها رحلة فلسفية وفكرية وليست فقط من مكان إلى آخر، إنما من منطقة تفكير إلى منطقة أخرى، حيث يبدأ كانديد بالتفاؤل الأعمى إلى التشاؤم العقلاني أو إلى الإيمان بفكرة العمل في هذا العالم. ففي اللحظة التي يلتقي فيها الجميع وتطرح العجوز سؤالاً، تتغير وتيرة النقاش بينهم، ويقودهم السؤال للقاء بعجوز يهتم بحديقته وهناك يعثر كانديد على جوابه، فهو يريد أيضاً أن يهتم بحديقته. ففي الحوار الأخير، يقول له بانغلوس: إنّ كل الأحداث مترابطة في خير العوالم الممكنة، فلو أنّك لم تُطرد من قصر جميل، وتضرب على قفاك بسبب حبّك للآنسة كونيغوند، ولو أنّك لم تخضع للتّحقيق، ولو أنك لم تجتز أميركا سيراً على الأقدام ولو أنك لم تطعن البارون، ولو أنك لم تفقد خِرافك التي أتيت بها من بلد الإلدورادو الطيب، لما كنت تأكل هنا ثماراً وفستقاً.
صداقة كانديد ومارتن شبيهة برفقة جلجامش وأنكيدو في ملحمة جلجامش


فيقول له كانديد: هذا صحيح ولكن يجب أن نزرع حديقتنا. هذه الفكرة جعلت الجميع يبدأ بالعمل كطريقة حياة ممكنة في أفضل العوالم أو في أسوئها. فكما قال هنري كلوار في «الإنشاء الفرنسي» عن الرواية: «إن كانديد هي القصة الأكمل والأبلغ بين أقاصيص فولتير، إذ تمثل تطوّراً هاماً عند المؤلف». ففي بداية القصة، كان متفائلاً جداً كما كان فولتير في بداياته، وفي ما بعد وبعد نكبة لشبونة، بدأت خيبة الأمل عنده. وفي نهاية الأمر، تتضح فلسفة فولتير في التشاؤم البنّاء والحيوي والنّاقد للواقع لكي تتوحّد الجهود في النّضال من أجل تحسين القوانين وتحسين حياة البشر.
يغيب الزمن في الرواية، ربما كي يوحي فولتير بأن القصة قد تحدث في أي زمن وفي أي مكان، لكنه يظهر فجأة في النهاية حين يذكر كانديد أن كونيغوند قد أصبحت عجوزاً قبيحة. يضع فولتير نقطة لهذه الكوارث وهو يذكرنا أن التفاؤل والتشاؤم صديقان يلتقيان في وقت ندرك فيه أن اهتمام كل فرد بحديقته هو جوهر الخروج من مأزق الزمن المتشائل الذي نصحو فيه من كل كارثة ونحن محكومون بالأمل.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا