وجهي بين يدي وأنا مطرق إلى الأمام في غرفتي السوداء، أرتشف كوب الشاي وأتأمل بيروت الغارقة بالعتمة لانقطاع الكهرباء. من نافذتي الأخرى أشاهد المرتفعات وكأنها أشباح خرافية في روايات إدغار آلان بو. وفيما أنا في صمتي الحائر، إذ بوحش أسطوري مجنّح يحطّ على جبال لبنان مزمجراً على بعد بضعة كيلومترات من نافذتي. فتهتزّ لقوّته المعمورة وترتجّ الأرض دون أن تفرغ ما في جوفها. ثم يلتفت الوحش إلى من حوله وكأنّه يقيس الأبعاد كما يفعل مهندس المساحة، ثم يشخص إلى مرفأ بيروت وكأنّه حضر إلى لبنان لهدف ما.
فيفتح شدقيه وسع السماوات والأرض، لينقض على سلالم الشرق، فيشَرُق رؤوس الجبال ويلتهم التراب الأحمر والينابيع والمنازل والناس داخل المنازل والأنهار والأحراش والمدارس، والأطفال داخل المدارس، والمستشفيات والمرضى وعبوات الدم داخل المستشفيات.. ثم ينقلب على بيروت ليحجب ظلّه شعاع الشمس الضئيل فوق المدينة، ويضرب قلبها بقبضته الخارقة، ويتابع التهام المدينة، حتى فرغت الدنيا وعادت اليابسة إلى سيرتها الأولى، رأساً بريّاً ممتداً من الجبل إلى البحر. لم يبقَ منها سوى المبنى الذي أطلّ منه وبقايا حسكية لأبنية صمدت مئات السنين. وقبل أن يغادر الوحش، بصق كمية من رمال الصحراء غطّت المساحة التي تحتلّها بيروت ثم عصفت نحو الوديان والسفوح وصولاً إلى أعالي الجبال.
ومع شروق شمس اليوم التالي، انقشع الطقس وهدأ الرماد، فارتديت ملابسي وخرجت لأشاهد مساحات الرمال الشاسعة القاتمة تغطي بيروت من المرفأ إلى قلب المدينة.. مدينة لا حياة فيها، وقد زالت الألوان، فلا أزهار ولا بيوت ولا تراب أحمر أو بنياً ولا أعشاب ولا أشجار ولا بشر ولا طرقات أو سيارات، ولا أعمدة كهرباء. فآخذ «مديح الظل العالي» من جيبي وأقرأ فيه: «هذه أمم تفتــّش عن إجازاتها من الجَمـَل المزخرفِ.. هذه الصحراء تكبر من حولنا.. صحراء من كل الجهات.. صحراء تأتينا لتلتهم القصيدة والحســام.. هل نختفي فيما يفسّرُنا ويشبهنا؟ وهل .. هل نستطيع الموت في ميلادنا الكحليّ؟».
ألتفتُ إلى الوراء حيث البحر الأبيض المتوسط، فأجده يحافظ على زرقته، ويدخل قلبي بعض الطمأنينة. جلست على صخرة لم يبتلعها الوحش. فتحت كتاب نيتشه «هكذا تكلم زرادشت» وأقرأ فيه. عندها تجيء فتاتان جميلتان بملابس بيضاء، فتاتان من بنات هذه الصحراء الجديدة، تجلسان إلى جانبي على الصخرة. رائع حقاً ها أنا أجلس هنا في الصحراء. وفيما أنا مستلق على الصخرة وعلى جانبيّ هاتان الغادتان الصامتتان المليئتان أسراراً وألغازاً، فتحت الفتاة الأولى فمها وهمست شيئاً ثم بدأت الفتاتان بالبكاء من منظر الانفجار المرعب المحيط بنا وقد استحالت مدينة بيروت صحراء شاسعة.
لن يعود الاخضرار إلا متى عاد الخير والصدق والاستقامة إلى قلوب الناس


ثم تسألني الفتاة بعدما جففّتُ دموعها بمنديلي: هل تعلم من أين جاء هذا الوحش المجنّح؟
أجيب: لا، ولكني أريد أن أعلم. من أين لكِ أن تعرفي؟
أجابت: هذا وحش تكوّن في سماء لبنان من تكثّف الفساد والرياء والخداع والكذب. لقد تعب الناس من الحروب المتتالية، وبدلاً من أن يعمدوا هذه المرة إلى حرب أخرى، أراحهم هذا الوحش الذي وُلد من نفوسهم، فابتلعهم وفرش الأرض برمال الصحراء التي رفضوها ومقتوها ولكنهم قبلوا الأموال التي جاءت من الصحراء. إلى أن جاءت الصحراء إلى هنا. ولن يعود الاخضرار إلا متى عاد الخير والصدق والاستقامة إلى قلوب الناس. وعندها سيستحيل الوحش عصفوراً نارياً جميلاً لم ترَ ريش أجنحته أعين بشر بعد. وسوف تعود بيروت ويعود لبنان إلى أجمل صورة.
استمعتُ بدهشة إلى الفتاة الجميلة وبساطة ما روته لي. ورحتُ أبحث في الأفق متساءلاً متى سيظهر هذا الطائر الناري العملاق. أريد أن أكون أول بشري يرى ألوان أجنحته!