«آخر النفق» رواية للطيفة الحاج صدرت أخيراً عن «دار الفارابي»، وهي الكتاب الذي يحمل رقم ثلاثة من الكتب التي تصدرها الكاتبة، تحت عنوان «مقامات نون النسوة». يثير العنوان سؤالاً هو: هل تريد الكاتبة أن تكتب قصة خروج المرأة من النفق ووصولها إلى آخره، وهذا ما يجعلها تندرج ضمن سلسلة «مقامات نون النسوة»؟ أو هل تريد أن تكتب قصة خروج المرأة من النفق ووصولها إلى آخره، وإسهام المرأة في العمل المقاوم الذي أدّى إلى ذلك؟كلٌّ من هذين السؤالين يعدّ هذا الكتاب رواية، قصة تنطق بدلالة تندرج تحت عنوان «مقامات نون النسوة»، أي إنها تروي تجربة المرأة في سعيها لتحقيق ذاتها على المستويين الشخصي والوطني، بوصفها إنساناً يتخذ موقعاً في المجتمع يؤدي منه دوراً، مثله مثل الرجل تماماً، وليس في مرتبة ثانوية أدنى منه. عالم هذه الرواية المرجعي أو حكايتها، أو مادَّتها الأولية، يتمثل في ما يأتي: امرأة من ميس الجبل، اسمها فاطمة حسن علم (تُذكِّر بامرأة معروفة) يتوفَّى والدها الذي كان يدلِّلها في حادث عمل، فتنتقل الأم بأسرتها إلى بيروت، وفاطمة طفلة، وتتشدَّد في تربيتها، وإذ تصبح في سن الزواج تجبَر على الاقتران برجل لا تحبّه، بعد أن يُطلب من حبيبها مهر لا يستطيع دفعه.


زوجها رجل شرس يضطهدها ويضربها. طلَّقها ثلاث مرات بعدما أنجبت أربعة أبناء. وإذ كانت وطنية بالفطرة، تعمل على مساعدة الفدائيين، ثم تنتسب إلى حركة المستضعفين، وتعمل في صفوف المقاومة، فيعتقلها الجيش الإسرائيلي إبان احتلاله للبنان في عام 1982، ويسجنها في سجن الرملة، حيث تلتقي بسجينات مقاومات يحكين قصصهن وتحكي هي قصتها، ثم تُنْقل إلى معتقل أنصار، ويُفرج عنها في عملية تبادل. وتمضي الأيام، فيكرُّ الأولاد والأحفاد، ويتحلقَّون حولها، ويصغون إلى حكايتها التي لا يملون من سماعها... تصدر الرواية عن هذه الحكاية المرجع وتتخذ بناء روائياً متخيَّلاً، تمضي حركة تشكله كما يأتي: تقاد فاطمة إلى المعتقل، والكيس الأسود يغطِّي رأسها ووجهها، ويداها موثقتان بالأصفاد، وذهنها المتوقد يشتعل بالأسئلة.
يتناوب على القصّ راويان: الشخصية الرئيسية فاطمة، والراوي العليم، فيمضي القصُّ في خطين: أوَّلهما تؤدّيه الشخصية بضمير المتكلم، وثانيهما يؤدّيه الراوي بضمير الغائب.
تروي فاطمة ما يجري في داخلها، فتتداعى أحداث الماضي الذي سبق الاعتقال، وأدّى إليه، ويروي الراوي ما يجري في الخارج، في الحاضر، فيتشكل مسار سردين: أوَّلهما داخلي نفسي، وثانيهما خارجي موضوعي، يمضي هذا المسار إلى أن تُقاد السجينة إلى سجن الرملة في فلسطين المحتلَّة، بعد أن تتعرَّض لتعذيب فظيع ولمحاولة اغتصاب تنجو منها.
تلتقي في سجن الرملة عدة سجينات، فتحكي كلّ منهن حكايتها، في العمل المقاوم، ويطلبن منها أن تحكي حكايتها فتفعل، وتروي سيرتها الذاتية المجتمعية، أي سيرتها الذاتية في مسار سيرة الشيعة اللبنانيين الذين انطلقوا إلى تحقيق ذواتهم، في قراهم والمهجر في بيروت وفي الغربة، فكانوا فاعلين على المستويات كافة: الفردي والاجتماعي والوطني والقومي، رغم بؤس الواقع الذي انطلقوا منه.
يؤدِّي القصَّ، في هذا القسم من الرواية، عدة رواة: الراوي العليم، والسجينات والشخصية الرئيسية فاطمة، وإذ تروي هي سيرتها المركَّبة يعلِّقن ويسألن، فيتشكل فضاء حواري، يبدأ، كما تقول الراوية، بتدفُّق الكلام على لسانها من تلقاء نفسه، كمياه حنفية فتحت بعد طول إغلاق (ص 74)، ثم تبدو، كما يقول الراوي، «كأنها معلمة تشرح لتلاميذها مسألة صعبة، فتحتاج إلى وسائل إيضاح، (ص87)، وتعلِّق عبلة، وهي إحدى السَّجينات المستمعات: «إن قصتك جميلة ومشوقة، يا عزيزتي، وكأننا في فيلم سينمائي عاطفي طويل، وأكاد لا أقوى على الانتظار لمعرفة تتمة القصة، أرجوك أكملي ماذا حصل بعدها» (ص140). وتقول الراوية، عندما تنهي جزءاً من قصتها: «والآن، حان لشهرزاد أن تسكت عن الكلام المباح، فقد حلّ وقت الصلاة» ( ص 64). 164
يتّصف هذا القسم من الرواية بخصائص، منها: تلقائية الخطاب السردي، وتضمُّنه معرفة متنوِّعة تحتاج إلى إيضاح، ما يجعله خطاباً مشوِّقاً، فتبدو صاحبته كأنها معلِّمة تقدِّم معرفة وتشرحها، وكأنها شهرزاد تحكي حكايتها، في الوقت نفسه. لكن وقت سكوتها عن الكلام المباح يأتي عندما يحين وقت الصلاة، وليس عند الصباح، وهذا دالٌّ على منظور روائي سنتحدث عنه بعد قليل. ثم تحدث قفزة طويلة، يمضي القص، بعدها، في مسار خطِّي يتناوب على القص فيه الراويان: العليم والشخصية، وتروي الأم في الجلسة العائلية قصة استشهاد ابنها المقاوم حسن، ما يعني أن كلّ راوٍ يروي ما يتيح له موقعه في الرواية أن يعرفه.
يفيد ما سبق أنَّ هذه الرواية ليست نقلاً للمرجع، كما يفيد أنَّها ليست خليطاً من الكلام المتنوِّع، وإنَّما هي بناء سردي متخيَّل أنشئ من منظور روائي اختار من وقائع المرجع ما التقطته مرآته، في نظام علاقات للوحدات القصصية بيَّناه قبل قليل، وهو بناء ينطق برؤية هذا المنظور المتمثل في ما يأتي:
ـ منظور نسوي يرى أنَّ المرأة إنسان مثلها مثل الرجل، قادرة على تحقيق الإنجازات في مختلف المجالات، ولا يقتصر دورها على الاهتمام ببيتها وزوجها وأولادها. من هذا المنظور تروي فاطمة علم قصَّة المقاومة، وقصص نساء مقاومات، وتتوالد حكايتهنَّ الدالّة على عظمتهن وتضحياتهن (ص 65).
2 ـ منظور قدري مفاده أنَّ الإنسان مهما حاول، لن يستطيع الهرب من قدره، (ص 14). ولهذا فهي ترى أنَّ ما حدث لها كان قضاء وقدراً، عليها أن تتقبله لأنه «إرادة الله عزّ وجلّ». (ص 211).
3 ـ منظور ديني تصدر عنه هذه الرؤية القدرية، فهي لا تخاف لأنها مؤمنة بما جاء في القرآن، وبما كانت والدتها تردِّده: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا». ويبدو لها أنَّ ما حدث ليس سوى إشارة من الله، مفادها «أنَّه يريدها أن تكمل السير في هذه الطريق الشاقة» ( ص 28).
السؤال الذي يطرح هنا، هو: كيف لامرأة تخرج على مجتمعها التقليدي البطركي الذكوري، وتعمل في صفوف مقاومة العدو الإسرائيلي، أن ترى العالم من منظور قدري، وتردّد ما تقوله أمها «المتزمّتة» كما تصفها غير مرة؟ ثم هل يمكن لامرأة تستسلم لقدرها أن تصنع شخصيتها المقاومة وقدرها؟
منظور نسوي إسلامي تصدر عنه الرؤية النسوية في الرواية


يبدو أنَّ هذه الرؤية القدرية، كما تفيد قراءة الرواية، ليست هي المتحكِّمة في اتّخاذ قرار الخروج إلى المقاومة، وإنَّما الحس الإنساني الفطري الذي نما، في ما بعد، وغدا وعياً ثورياً دينياً، يرى المضي في درب الحقّ نوعاً من العبادة. إن تكن فاطمة جديرة بأن تكون في أعلى مقام من مقامات نون النسوة، كما علّقت السجينات المستمعات إلى قصتها (ص 135)، فإن خطابها النسوي صدر من منظور واقعي رصين يرى الواقع، ويتبيَّن «ذكوريته»، ونماذج ذلك كثيرة، منها: كثيرون يردّدون: «ما للمرأة وللسياسة، مكانها في المطبخ كي تلبِّي فقط رغبة الزوج الجنسية، وتملأ بطون أفراد عائلتها...(ص 71)، فتذكر هذا القول، وترى بؤس مردّديه. وترى أن المرأة الشرقية مقموعة في معظم الأحيان، مع أن الإسلام يؤكّد ضرورة موافقتها على الرجل الذي سوف تتزوجه، (ص142). وهي ترى «أنَّ الذكورية ليست سوى حالة اجتماعية، مرضيَّة، أما الرجولة فهي حالة أخلاقية رفيعة لا يعرفها إلّا قلة من الرجال الرجال»، وأن لكل من الرجل والمرأة موقعه ودوره في المجتمع، والأمور لا تنجح ولا تستقيم إلا بتعاونهما. ويبدو أنها تصدر في رؤيتها النسوية هذه من منظور إسلامي؛ إذ إنها ترى أن الله حدّد معنى الزواج بأرق التعابير وألطفها بقوله: «هن لباس لكم وأنتم لباس لهن» (ص167)، ما يعني أننا نستطيع التحدث عن منظور نسوي إسلامي تصدر عنه الرؤية النسوية في هذه الرواية.
وإن كان لنا أن نجيب عن السؤال الذي طرحناه في بدء الكلام، وهو: ما دلالة آخر النفق؟ فإننا نستطيع القول: إنَّه آخر النفق الذي خرج منه الوطن إلى التحرير، بعدما قاوم رجال ونساء من أبنائه، فخرجت المرأة من النفق إنساناً مقاوماً يرى، ويختار، ويحب، ويصنع شخصيته وقدره. ختاماً لا بدّ لنا من أن نشير إلى أنّ القصّ، وخصوصاً لدى الكلام عن الشيعة اللبنانيين، يتضمن معلومات تحتاج إلى إعادة نظر وتصويب.