كل فترة، تستعيد إيطاليا فنانها الرائد كارافاجيو (1571 ــــ 1610)، ضمن معارض متفرّقة، من بينها واحد مهم أقيم في متحف «جاكمار أندريه» في روما تحت عنوان «كارافاج في روما، أصدقاء وأعداء». عاش كارافاج (أو كارافاجيو) ما بين القرنين السادس عشر والسابع عشر. وهذه المرحلة التاريخيّة عُرِفت بما يُسمّى «عصر الباروك» الذي شهد تطوّراً فنيّاً وفكريّاً لافتاً في مسار تاريخ فنّ التصوير ما بعد عصر النهضة الإيطالي. أخذ الإنسان يُشكّل محور الأعمال والاهتمام بعد مرحلة غلبة اللاهوت والدين على الأعمال الفنّيّة في مرحلة ما قبل عصر النهضة (مرحلة القرون الوسطى). عصر الباروك يعني بروز النظريّات الفلسفيّة التي تتمحور حول الإنسان ككيان وفرد، إضافة إلى الاكتشافات العلميّة التي كان همّها خدمة هذا الإنسان لحياة وعيش أفضل. لم يكن كارافاج الفنان الوحيد حينها، فقد عرفت إيطاليا فنانين كباراً رفعوا اسم النهضة الإيطاليّة عالياً، يأتي على رأس هؤلاء ليوناردو دا فنشي، ميكال أنجلو، رافاييل، تيسيان، كوريجيو...
«موت العذراء» (زيت على كانفاس ـــ 369 × 245 سنتم ـــ 1604/1606)

غلبت على الباروك خصائص البذخ والترف والفخامة والمبالغة الفنّيّة والحرّيّة في الطرح.. يعود السبب في ذلك إلى ظهور عوالم اجتماعيّة كزيادة الثراء في إيطاليا، وظهور طبقات جديدة في المجتمع.. هو أيضاً عصر رعاية الدولة للفن، ونعني بذلك دور الملوك الذين استخدموا الفن لمصالحهم ونزواتهم..
كانت روما التي عاش فيها كارافاج عاصمة أوروبا الكاثوليكيّة، والكنيسة مركزاً لرعاية الفن. تحوّلت روما إلى عاصمة العالم الفنّي من ضمنه النحت والعمارة. ظهرت حينها مدرسة الأخوة «كراتشي» التي مزجت بين عدة أساليب فنّيّة لفنانين إيطاليّين كبار (ألوان تيسيان ورسم ميكال أنجلو)... في تلك الأجواء، ظهر كارافاجيو الذي أدخل على الفنّ الإيطاليّ أسلوباً خاصّاً أحدث ثورة في اللوحة الإيطاليّة حينها؛ لم يكتفِ بتوزيع الأشخاص في اللوحة كما فعل الآخرون، بل ركّز على ما يُسمّى «حضورهم المسرحيّ»، وقد غلب عليهم الضوء (كيلا نقول النور) الذي يُشكّل العنصر الجديد الطاغي على اللوحة ودراميّتها...
اسمه الحقيقيّ Michel- Angelo Merise، جاء إلى روما قادماً من ميلانو الإيطاليّة، متتلمذاً على يد أستاذه الفنان بترزانو. كان همّ كارافاج البحث عن الضوء من خلال الظل مع نوع من الواقعيّة في تصوير الأشياء كما يراها. يُذكرنا هذا الفنان الذي حمل الضوء إلى اللوحة بأسطورة «بروموثيوس» الذي حمل النار إلى الإنسان لتتحوّل الحياة برمّتها من خلال هذا الاكتشاف. عُرضت في هذا المعرض عشرة أعمال للفنان. هذه الأعمال غير العاديّة تسمح برسم المسار الروميّ (نسبة إلى روما الإيطاليّة) لكارافاج للسنوات 1592- 1606 وصولاً إلى منفاه كما سنرى لاحقاً.

«سلّة الفاكهة» (زيت على كانفاس ــــ 46 × 64.5 سنتم ـــ 1599)

الفنان الذي ولد عام 1571، سيُشكّل في ما بعد ثورة في التصوير الإيطاليّ للقرن السابع عشر من خلال واقعيّة قماشاته وتجديداته عبر استعمال المُضيء- المُعتم، فأصبح الفنان الأهمّ في زمنه. كرّس المعرض للمسار الروميّ للفنان كارافاج وللوسط الفنّي الذي عاش فيه. اهتمّ أيضاً بعلاقاته مع جامعي الأعمال والفنانين ومع الوسط الثقافيّ الروميّ، وأيضاً مع الشعراء وأعلام زمنه؛ علاقات لم تُشكّل يوماً موضوعاً لمعرض، كما جاء في الكاتالوغ. أظهر المعرض أصدقاء كارافاج والداعمين له، وكذلك أعداءه وخصومه الحاضرين في المشهد الفنّي الروميّ في زمنه. غطّى الأعمال المستمرّة حتى عام 1606 حيث أيّامه الأخيرة في روما. فقد حوكِم بالموت بعد المشاجرات المميتة قبل أن يُنفى ويموت في عام 1610 من دون أن يعاود رؤية روما مجدّداً.
حاورت أعماله في المعرض أعمالاً لفنانين معاصرين أمثال أنيبال كاراش، أورازيو جونتيلشي، جيوفاني باكليون وريبيرا... اعتُبِر كارافاج بطل الواقعيّة، كما يقول الباحث ليونيللو فينتوري. وقف ضدّ التأنقيّين الذين تثقّف على أيديهم، والكلاسيكيّين، وضد عجرفة رجال الدين الذين سيثورون على أعماله. سيكون لأعماله لاحقاً التأثير الكبير على أعمال الفنانين اللاحقين، ولا سيّما الفرنسيّين منهم على رأسهم جورج دو لاتور، والهولنديّين (يأتي على رأسهم الفنان الأسطورة رامبراندت).
غلبت على أعماله الحقيقة والصدق ومسحة المأساة


غلبت على أعمال كارافاج الحقيقة والصدق ومسحة المأساة، هذا في ما يخصّ دلالات اللوحة. أمّا جماليّاً فقد غلب عليها التضاد اللونيّ (الضوء والظلّ حيث استُبدل ضوء النهار بضوء الليل) إضافة إلى الحجوم والخطوط الهندسيّة كثورة على الكلاسيكيّة. كان يشعر بأنّ للتفاحة من الأهمّيّة ما لمريم العذراء كإدراك فنّيّ. وهذا الشيء يُعتبر تطوّراً كبيراً وسريعاً في المفهوم الفنيّ آنذاك، بل إنّ كارافاج سبق سيزان بثلاثة قرون في ما يتعلّق بنظرته ورؤيته التشكيليّة للطبيعة الصامتة وعناصرها، ولا سيّما وجود التفاحة كعنصر في اللوحة. قد يكون مصدر هذا الأمر الأسطورة الدينيّة المتعلّقة بحوّاء وآدم وتقاسمهما الخطيئة بعصيانهما الإلهي الكوني، فحصل هذا التحوّل الكبير في الوجود وماهيّته.
كان كارافاج متطرّفاً في آرائه وحتى تصرّفاته. التجأ إلى تصوير الفلاحين بدل القساوسة ورجال الدين. هوجِمت لوحاته، ونُعِتت بشتّى الأوصاف الوضيعة، ورفض القساوسة إدخالها إلى الكنائس التي يعتبرونها بيوت الربّ. إلا أنّ الفنان لم يستسلم، ولم يتراجع، بل واجه تلك الإهانات والمكائد التي حاكها أعداؤه، والتي ستؤثّر على عقله وتصرّفاته، فزاد من تطرّفه في رسم اللوحات بناءً لما يراه صحيحاً. لم يكتفِ بذلك، بل لجأ إلى استعمال العنف وصولاً إلى القتل! فحوكِم مرّات عدّة قبل أن يدخل السجن ثمّ يخرج منه. جرِح إحدى المرّات شخصاً بسبب نزاع حول امرأة، فهرب إلى جنوا في إيطاليا، قبل أن يعود إلى روما في ما بعد. اشتدّت قساوة الظروف عليه، فهاجم ضابطاً ورجلاً مدنياً، وقتلهما بعدما أُصِيب في رأسه قبل أن يهرب من منطقة إلى أخرى ليُجرح في ما بعد في مبارزة مع من كانوا يطاردونه.

لم يكتفِ بتوزيع الأشخاص في اللوحة، بل ركّز على ما يُسمّى «حضورهم المسرحيّ»


شيء مُلفت ومُحيّر، كيف لفنان كبير أن يكون خارجاً عن القانون قاتلاً منفيّاً، في الوقت الذي أبدع فيه أعمالاً جريئة تعبق منها الأخلاق والجمال والدين والإحساس! فنان تصويريّ مثير للجدل!
لم يكن كارافاج، كباقي الفنانين، ممّن يضع تخطيطاته الأولى قبل أن ينقلها على اللوحة، بل كان يرتجل بأن يرسم ويُلوّن على القماشة مباشرة.
نذكر من أعماله «سلّة الفاكهة» (في متحف ميلانو)، التي تُعتبر إنجازاً رائعاً ومُنطلقاً للفن الحديث من خلال السلة البسيطة المتواضعة التي حرّرت اللوحة من النواحي الفنيّة والأخلاقيّة التي كانت مسيطرة عليها من ناحية الأسلوب والموضوع. وهناك لوحة «يوحنا المعمدان» (دُمّرت في حرب 1945)، التي رسمها بناءً على طلب لتوضع في كنيسة «سان لويجي دي فرانسيزي» في روما. رفضت الكنيسة اللوحة بسبب تصوير الفنان القدّيس ماثيو بقدمين متسختين، الأمر الذي لا يلائم الكنيسة. أراد كارافاج من خلال ذلك تأكيد واقعيّته في القديس ماثيو عبر إظهاره له عاملاً متعباً وكادحاً. وفي عمل آخر، أظهر القدّيس ماثيو رجلاً مُلتحياً جالساً يلعب الورق مع بعض الشبّان اللاهين... وهناك لوحة «موت العذراء» (في اللوفر)، التي تكتنف تعبيراً عميقاً عن الحزن. لكنّ الكنيسة رفضتها أيضاً، والسبب ادعاؤها (الكنيسة) أنّ الفنان استخدم جسد فتاة مُنتحرة نموذجاً لرسم العذراء. في اللوحة مأساة وتعبير إنسانيّ وواقعيّ يصعب على رجال الكنيسة فهمهما واستيعالها وهضمهما. هذه اللوحة ستلقى شهرة وانتشاراً كبيرين في ذلك الوقت (سنة 1607) حين كان كارافاج منفيّاً! لقد فتح كارافاج، كغيره من الفنانين الكبار عبر التاريخ، الأبواب لتطوّر فنّيّ تصويريّ سيكون للجرأة، التي يحتاج لها الفن دائماً، فيها عنوان كبير لفتوحات أسلوبيّة كبيرة..

* رئيس قسم الفنون التشكيلية في الجامعة اللبنانية