القاهرة | قبل فترة، حصل شاعر العامية المصري عبد الرحمن الأبنودي (1939)، على «جائزة محمود درويش للإبداع العربي» للعام 2014 من «مؤسسة محمود درويش» في رام الله تقديراً لرحلته الطويلة مع الإبداع الشعري العربي ودفاعه عن حقوق شعبه وعن القضية الفلسطينية. منذ بداياته في أوائل الستينيات، أصرّ الأبنودي أن يكون شاعراً جماهيرياً.
لم يكن خيار الكتابة بالعامية نتيجة عجز عن التعبير الفصيح أو جهل باللغة العربية وأسرارها التي عرفها من مكتبة والده القاضي الشرعي. لم يكن الأخير راضياً عن خيار الابن الذي قرر مغادرة قريته أبنود (محافظة قنا) الى القاهرة. أتى باحثاً عن دور في مجتمع كان يشهد يومها تغييرات سياسية واجتماعية مع اندلاع «ثورة 23 يوليو» 1952 ومعارك عبد الناصر مع الغرب لتأكيد استقلالية قراره السياسي. على الصعيد الفني، كانت الساحة الأدبية تشهد تغييرات أفسحت المجال لأصوات شعرية تكتب بلغة الحياة اليومية، وتعبّر عن طموح اللحظة الجديدة، وتسعى إلى تجاوز الزجل الشعبي الذي بلغ مداه مع تجربة بيرم التونسي. كان الأخير شاعراً كبيراً، لكنه عبّر عن هموم المدينة التي واصل فؤاد حداد وصلاح جاهين التعبير عنها بطموح مختلف. راهن الأول على تحقيق المنجز الأهم في التحول بالنقد الاجتماعي من فضاء الزجل الى الشعر بالمعنى العميق بفضل موهبة تستند إلى ثقافة فرنسية رفيعة وتتواصل مع معرفة معمقة بالتراث العربي. أما جاهين، فقد راكم فوق تجربة حداد بلغة أكثر ليونة وتماس مع الحياة اليومية، وفي الوقت عينه، تبنى تصورات جديدة عن الشعر لم تكن بعيدة عن تحولات قصيدة الفصحى التي بدأت معاركها التجديدية لإقرار أنموذج التفعيلة ومن بعده نمط قصيدة النثر. طموح تمكّن جاهين من تحقيقه كاملاً، خصوصاً أنّه عبّر عن المشروع القومي الناصري، وعرفت أغنياته ورسومه الكاريكاتورية انتشاراً جماهيراً دعّم حضور قصيدة العامية المصرية. هذا الحضور استثمره جيل الستينيات الأدبي الذي كان الأبنودي أحد أبرز طلائعه.

عرف كيف يستثمر مخيلته الصعيدية التي تحفل بالأساطير والملاحم


تولى جاهين تقديم الأبنودي مع مجيليه سيد حجاب وفؤاد قاعود في الباب الصحافي الشهير الذي كان يقدمه في مجلة «صباح الخير». ونشرت «دار ابن عروس» التي أسسها جاهين ديوان الأبنودي الأول «الأرض والعيال». منذ عنوانه أو عتبته الاولى، عبّر الأبنودي عن خياره بالتعبير عن هموم أهل الصعيد الذين يعانون الفقر والتهميش. تماهى الأبنودي مع الخيار الذي تبناه قريناه الشاعر أمل دنقل، والقاص الشهير يحيى الطاهر عبد الله اللذين جاءا معه من قنا الى القاهرة. لكن الأبنودي عرف الشهرة بشكل أسرع حين قدم نفسه كشاعر غنائي عرفت أغنياته الطريق إلى الاذاعة مع أصوات نضرة مثل محمد رشدي، ومن بعده عبدالحليم حافظ، ومحمد قنديل، ونجاة. أصوات تولت مع ملحنين مثل بليغ حمدي وكمال الطويل ومحمد الموجي مهمة التعبير عن «ثورة يوليو» وخياراتها السياسية. من بين مجموعة من المواهب الكبيرة في جيله، عرف الأبنودي كيف يستثمر مخيلته الصعيدية التي تحفل بالاساطير التي كانت أسبق من معرفة النقد العربي بما يسمى الآن بـ«الواقعية السحرية». اختزنت ذاكرته السير والملاحم الشعبية التي أعاد إنتاجها وهو يكتب عن ملاحم لأفراد عاديين كانت الحيلة طريقتهم الأولى في مغالبة البؤس، وكان ايمانهم بثورة ناصر أفقاً واعداً لم يتركوه.

يعرف قراء العامية المصرية الملامح التي رسمها الأبنودي لبسطاء مثل «أحمد سماعين» أو «حراجي القط» العامل في السد العالي وهو يتبادل خطاباته مع زوجته. كذلك يعرفون أمه فاطمة قنديل و«العامة يامنة» التي اختارها الأبنودي ليتبادل معها حواراً شعرياً عن همومه التي رافقته في سنوات الغفران التي يعيشها بعد إنجاز مشروعه الشعري كاملاً. هذه الشخوص كانت أقنعة شعرية ابتكرها الابنودي لتحقيق هدفين: الأول إيصال رسالته الشعرية، وتأكيد انحيازاته للفقراء والمهمشين. والثاني العيش بقدر من التوازن يجنبه تجربة الصدام مع السلطة. تجربة عاشها الأبنودي منتصف الستينيات حين تعرض للسجن عام 1966 بتهمة الانتماء إلى تنظيم شيوعي صغير اسمه «وحدة الشيوعين». كانت غالبية أعضائه من الكتاب والفنانين أبرزهم جمال الغيطاني، وصلاح عيسى، وصبري حافظ، والناقد ابراهيم فتحي. سجنوا جميعاً ثلاثة أشهر قبل الإفراج عنهم استجابة لشرط وضعه جان بول سارتر لزيارة مصر قبل أيام من نكسة الـ 1967 التي كانت زلزالاً دفع الكثير من أبناء هذا الجيل إلى مراجعة قناعات سياسية وفنية. يروي الأبنودي أنه اكتشف في السجن أنّ «الشيوعية ليست طريقاً لتحقيق الذات أو تقديم الخير إلى الفقراء». جاءت النكسة ليرى كل الأحلام تنهار. كان أول رد فعل على النكسة الأغنية التي كتبها لعبد الحليم حافظ بعنوان «عدى النهار». أغنية جاءت عتاباً لناصر ودعماً لاستمراره زعيماً. إنّها مفارقة جيل لا مفارقة تخص شخص الابنودي الذي خرج إلى الجبهة ليكتب «يا بيوت السويس». ديوانه «وجوه على الشط» الذي يروي تجربة أبناء مدن قناة السويس بعد تهجيرهم إثر العدوان، التي استندت الى شخصية ابراهيم ابو العيون الصعيدي الذي استقر في قرية «الجناين» قرب القناة. وهذا النص ذو نفس ملحمي لافت، الى جانب سطوة الحس الساخر والعميق بالمسافة بين السلطة وأحلام الناس. بعد وفاة ناصر، بدأ السادات التضييق الأمني على الأبنودي الذي رفض «أمن الدولة». سافر إلى تونس لاستكمال مشروعه في جمع السيرة الهلالية. وفضل التفرّغ لكتابة الاغنية كحل لتجنب المواجهة الجديدة. لكنّ تحرش السلطة لم ينته. استطاع الأبنودي الخروج من مصر بعدما يئس الأمن منه. اختار الشاعر لندن منفى اختيارياً لثلاث سنوات، أنهاها عبد الحليم مستخدماً «سلطته» في السماح له بدخول مصر. اعتقد السادات أنّ الأبنودي سيكون صوته، فأعلن رغبته في تعيينه «وزيراً للثقافة الشعبية». لكن الأبنودي رفض اتفاقية «كامب دايفيد»، وكتب قصيدته الشهيرة «المشروع والممنوع»، وهي أقسى نقد وُجِّه إلى نظام السادات، وكانت إحدى وثائق التسوية بين الابنودي واليسار الذي غضب رموزه من تقارب الابنودي والسادات. وبسبب هذا الديوان، جرى التحقيق مع الأبنودي أمام المدعي العام الاشتراكي بموجب قانون سمي «حماية القيم من العيب». يقول عبد الرحمن الأبنودي بلهجته الصعيدية الحادة: «في حياتي أخطاء بالغة القسوة، ندمت عليها. لكن في الشعر، لم أندم على شيء لأن الشعر مقدس، لا يأتي بقرار، هو هبة من الله».
طوال مسيرته، ظل موقف الأبنودي من السلطة مثار لغط بين منتقديه. غير أن علاقته بالجماهير ظلت في مكان آخر بفضل اعتماد صاحب «الزحمة»على آليات فريدة في التواصل مع الناس، تقوم على استخدام ذكي للهجة صعيدية مطعمة بنفس سردي ساخر. وصفة في بناء نص شفاهي بالغة العذوبة وفي الوقت عينه يتمسك بشعرية صافية، كما يتجلى في ديوانيه البارزين «الفصول» و«صمت الجرس». عملان يتسمان بسمة حداثية لافتة، يحملان قدراً من التأثر الواضح بشعرية سان جون بيرس، والمقولات التي أطلقها غارودي عن تلك الواقعية التي بلا ضفاف. واقعية لا ترى في التجريب الفني تخلياً عن مفهوم الالتزام بالمعنى الإيديولوجي الضيق، وهو المعنى الذي ظل الأبنودي واعياً لخطره على النص الشعري.




صداقة طويلة

في كلمة مسجلة بُثَّت خلال الاحتفال بجائزة محمود درويش، سرد عبد الرحمن الأبنودي بداية علاقة الصداقة الطويلة التي امتدت بينه وبين درويش منذ عام 1968 واستمرت حتى رحيل «شاعر الأرض» عام 2008. وقال الأبنودي: «رحل محمود درويش وعاد إلى مثواه الأخير في فلسطين. فلسطين العظيمة، فلسطين التي أحبها كما لم يحب أحداً، كما غناها في شعره. بيت شعري واحد منه يعادل شعراء كباراً».