«الكتاب ينزف»، عبارة لطالما ردّدها المشتغلون في الكتب العربيّة، سواء تعلّق الأمر بتأليفها أو مراجعتها أو تصميم أغلفتها أو طبعها... إلى جانب أزمات دور نشر الكتب في لبنان ــــ صلة الوصل بين الكتّاب والقرّاء ــــ من تراجع الاهتمام بالمطبوع، وندرة ما هو جدير بالنشر، وأكلاف الطباعة المرتفعة، تضاف اليوم أزمة إضافيّة مُتمثّلة في شحّ الدولار الأميركي. في اقتصاد لبنان «المدولر»، تتقاضى المطابع سعر الورق بالدولار بحسب سعر الصرف في السوق السوداء، فيما «تُنقّط» المصارف من ناحيتها الأموال للمودعين. وبالتالي، قلّما يستطيع أي مشروع كتاب أن يبصر النور، إذ يتعلّق الأمر بمقدرة صاحب مشروع الكتاب على تكبّد مصاريف ولادة إصداره أوّلاً أمام دار النشر، ثمّ مفاوضة الأخيرة المطبعة على سعر الصرف الأدنى للدولار في ظلّ شحّه للدفع مقابله بالليرة اللبنانيّة، مع التضحية غالباً بنوع الورق، والشكل الخارجي للكتاب، لتبدأ جلجلة البيع الخفيف أصلاً. مع ارتفاع سعر الكتاب (نتيجة سعر الصرف المرتفع أيضاً نسبة لليرة) في المكتبات، ينام ما هو مطبوع أصلاً في المستودعات. وإذا كان «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» يسهم في تحريك عجلة تصريف «بضاعة» الدور اللبنانيّة سنويّاً، فقد جاء تأجيل الدورة الأخيرة جرّاء 17 تشرين ليصيب بعضها في مقتل، بخاصّة أنّ حفلات التوقيع خلال الحدث كانت «أساسيّة» في خطّتها السنويّة. وفي هذا الإطار، يكرّر أكثر من صاحب دار نشر الحديث عن تقلّص في عدد الإصدارات، وعن أزمة بيع واضحة للكتب، مع شحّ الدولار.

قصّة قصيرة
عالم الكتب زائل... ففي اختصار لأزمة دور النشر اللبنانيّة، يعدّد مدير «دار الفارابي» جوزف بو عقل محطّات كثيرة، منها أنّه «في سبعينيّات وثمانينيّات القرن الماضي، كانت «الفارابي» تطبع حتّى خمسة آلاف كتاب سنويّاً، وتشحن ألفي كتاب منها إلى العراق، وألفاً إلى الجزائر، لتوزّع الباقي في لبنان وبلدان أخرى». ويقول إنّ «تراجع مبيعات الكتب بدأ مع خروج الفلسطينيين من لبنان، حتّى صرنا نطبع عدداً منها يقل بنسبة 60%، مقارنة بزمن وجود الفلسطينيين في الأراضي اللبنانيّة، فالقضيّة الفلسطينيّة كانت سبباً للإقبال على الكتب».

(مولي فيرهورست ــ المملكة المتحدة)

ثمّ يمرّ بمنعطفات عدم اكتراث اللبنانيين للقراءة، ونكبتهم بجوّالاتهم، والارتخاء جرّاء الوضع المسيطر، وسنوات الفساد بدءاً من التسعينيّات، والطائفيّة التي عشّشت وعزّزت صعود نوع آخر من الكتب (دينيّة أو عنصريّة أو تدافع عن إسرائيل...) إلى الواجهة، والفساد الذي جعل الشباب ينتفضون في 17 تشرين... كل ذلك جعل بيع الكتب في لبنان يستمرّ في الانحدار. الانحدار الذي لم تسلم منه المبيعات في الدول العربيّة، نتيجة الرقابة، وأيضاً نتيجة الدفع بسخاء من بعض هذه الدول لإعلاء دور نشرها بحسب بو عقل، من دون أن يعني ذلك توقف العرب عن النشر في لبنان، نظراً إلى عراقة الدور اللبنانية، وتوزيعها الواسع في الخارج، والتوزيع السهل عموماً. أضيفت إلى هذه المرحلة، أزمة التأليف، إذ لم تصدر كتب جدّية مع تفاقم الأزمة سنة 2010 وصولاً حتّى 17 تشرين. ويشدّد الناشر الماركسي العتيق: «لا يفهمنّ كلامي أنّ 17 تشرين مسؤول عن أزمة الكتاب، لكن الحبل بالمآسي انفجر في هذا التاريخ، ما انعكس ندرة في العناوين الصادرة أخيراً، وإيصاداً على عمليّات البيع». من جهة ثانية، لا يغفل بو عقل عن التفصيل الآتي: «بعد 2005، كان لبعض دور النشر اللبنانية دولة (أو دول) عربيّة تشتري منها الكتب (تدعمها)، حتّى لو رمت الدولة الكتب المشتراة في الأقبية أو كانت هذه الدور تنشر كتباً لا تُقرأ، أي أنّ الشراء منها يتمّ بحسب مبدأ التنفيع. بيد أنّ الدور غير المتكئة إلى عطاءات دول مجاورة سخيّة أو إلى تنفيعات من زعيم سياسي، فوضعها صعب، وبعضها بدأ يجمع أغراضه للرحيل من الكار».

أزمة الدولار
حال دور النشر العربيّة التي تتخذ من بيروت مقرّاً لها ليس بأفضل. في هذا الإطار، يُلخّص مؤسّس «منشورات الجمل» خالد المعالي الوضع، قائلاً: «ما إن تمّت جدولة عمليّة النشر بعد الصيف، حتّى جاءنا «تسونامي» جديد (أزمة الدولار) خرب كلّ الجدولة، ما أخّر إصدار بعض الكتب، وصعّب الحصول على الورق، وتسديد تكاليف الكتب المترجمة (تحويل كلفة حقوق الترجمة للدور الأجنبيّة)»، مقلّلاً من أهميّة حفلات التواقيع في معرض بيروت في جدولته، فالحفلات التي يصفها بـ«حفلات الختان؛ من ليس له أقارب في بيروت لن يحضر احتفال توقيعه أحد». عموماً، لبنان ليس سوقاً أساسيّة تؤخذ في اعتبار «منشورات الجمل». أمّا بشأن المشاركات في معارض الكتب العربيّة الضخمة، فيرى المعالي أنّها «تلعب دوراً في إسناد عمليّة النشر، بيد أنّها قد تضطلع بدور معاكس، عندما لا تتابع عمليّات تزوير الكتب. أمر يصيب الدور في مقتل، ويتسبّب في خسائر تتجاوز «تسونامي» شحّ الدولار. ويوضح تفضيلاً مهمّاً، مفاده أنّ عمليّة بيع الكتب لا تعتمد على كمّ العناوين التي يصدرها الناشر وعمّا إذا خفّت نسبتها اليوم مقارنة بالوقت عينه في السنة المنصرمة، بل على ما يملكه الناشر من كتب جديدة حيّة تخاطب العقليّة النخبويّة من القراء.
في السبعينيّات والثمانينيّات كانت «الفارابي» تطبع حتّى خمسة آلاف كتاب سنويّاً


سؤال الناشر العراقي عن تفضيلات القرّاء، وعمّا إذا كان هناك إقبال على كتب بعينها في الأزمات، يجيب عنه قائلاً: «لا خريطة ثابتة في تفضيلات القرّاء. التفضيلات تختلف من سنة إلى أخرى، ومن دولة عربيّة إلى أخرى. وللميديا تأثير أكيد في هذا الإطار. لكن قبل أمر التفضيلات، واضح أنّ مستوى الفضول عند القارئ العربي منخفض». وعن الكتب الإلكترونيّة، فإنّ الجماهيريّة الإلكترونيّة متخلّفة في العالم العربي بحسبه، ما يجعل انتظارات الناشر من الكتاب الإلكتروني سابقة لأوانها.
بين خطر الإفلاس والسأم، يعيش الناشرون، فيما «بضاعتهم» تكسد، وأمر إنعاشها يتجاوز اهتمام الناس المحجورين ذوي الآذان الصائخة إلى مستجدات الفيروس اللعين، ودائمي التفكير في أمر معاشهم في الغد. الكتب عالم زائل!