غالباً ما كنا نراه مبلّلاً، يحلق لحيته، أو يعقد ربطة عنقه، أو يشغل السيجارة. دعانا لنشارك معه رحلة حياة طُبعت على جبهة راحت تزداد اتّساعاً، فيما استحال ما بقي من الشعر رمادياً. فقط الحاجبان الداكنان أبقيا على لونهما لفترة طويلة. لكن قبل كل هذا، سمح للمخرجين بالكشف عن جوانب مزعجة، بل وحشية فيه. فعل ذلك بشجاعة الممثل، الذي رغب في الانخراط في شخصياته المتنوعة التي تعاني من صراعات أخلاقية. وجود ميشال بيكولي (1925 ـــ 2020) على الشاشة الكبيرة لا غنى عنه، هو الذي شكّل قيمة عاطفية كبيرة في السينما الأوروبية على مدى أكثر من سبعة عقود، فهو غالباً ما كان صنو المخرج!

خلال الحرب العالمية الثانية، كان نشطاً في السياسة اليسارية في جنوب غرب فرنسا. وبعدها كان جزءاً من «سان جرمان دي بري»، أحد أحياء الدائرة السادسة في باريس كان مركزاً للحركة الفلسفية الوجودية. خلال تلك الفترة، صادق الفلاسفة والناشطين والمناضلين السياسيين مثل سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر، وكان عضواً في الحزب الشيوعي الفرنسي، وظلّ يسارياً طوال حياته. ظهر للمرة الأولى على الشاشة الكبيرة عام 1945 كقروي راقص في Sortilèges لكريستيان جاك.
ربط بيكولي الأناقة بالابتذال بطريقة محببة جداً. لم يكن صغيراً عندما بدأت شهرته العالمية. في «الاحتقار» (Le Mépris - 1963) لجان لوك غودار، كان عمره 37 عاماً. شراكته مع أجمل ممثلات السينما مثل رومي شنايدر وكاترين دونوف، كانت دائماً مغرية. رغم أن شخصياته نادراً ما تكون واثقة من نفسها أمام النساء الجميلات، ولكن بيكولي كان يقدم عدم الثقة بطريقة مميزة وممتعة. في الفيلم، لعب دور كاتب السيناريو بول، الذي يمشي في «مدينة السينما» (Cinecittà) على جزيرة كابري بقبعة سوداء فوق جبهته العالية. كان بول محبوباً بعفويته وربطة عنقه غير المعقودة وطريقة تدخينه للسيجارة وشرب الكاس. كره كونه فظاً بتعامله مع المرأة التي تعتبر من أجمل النساء في تاريخ السينما. بريجيت باردو وبيكولي في الفيلم يضربان بعضهما ويتبادلان القبل، وتهمس المرأة في أذنه «أنت تخيفني».
قدمه المخرج الفرنسي كلود سوتي في أفلامه بصفته «كاره النساء الأنيق»، وأقنعنا بها بيكولي بإصرار وبلا هوادة منذ فيلم «أشياء الحياة» (Les Choses de la vie – 1970) وتوّجت بشكل مدمر في فيلم «مادو» (Mado – 1976). عادة ما كانت شخصيات بيكولي ترفض الاتّهامات بالكذب، ويواجهها بالصمت والخمول. قدم هذه الشخصيات التي تأكل مشاعرها بعمق وإخلاص. عندما طرحت عليه رومي شنايدر آخر سؤال مرير في «أشياء الحياة»، لم يستطع الرد عليها، فأجاب بإيجاز «لا». ولكن بيكولي وضع أكبر حنان ممكن في هذا الرفض.
محلل مفتون بالتشوهات الدقيقة للشخصيات والعلاقات الإنسانية


ثقة غير مشروطة قدّمت لبيكولي منذ عام 1963. انتقل بسهولة بين الأكوان المختلفة والمتناقضة لكلود سوتيه وماركو فيريري وميشال دوفيل وكلود لولوش وليوس كاراكس ولوي مال وألفرد هيتشكوك ويوسف شاهين ومارون بغدادي. كان مخلصاً للويس بونويل في ستة أفلام. أتقن شخصية البورجوازي الخبير الذي يخفي عواطفه وأكاذيب حياته، يكشف فقط ما يلائم وضعه ويحافظ دائماً على الاحترام نفسه. لكن كلود شابرول كشف الشغف داخل بيكولي في فيلم «زفاف دموي» (Les Noces rouges – 1973)، الذي لعب فيه بيكولي دور سياسي يخون زوجته وينسى كل الحسابات الاجتماعية. من خلال تقديم هذه الشخصية، كسب بيكولي في الفيلم نقاوة وبراءة لم يسبق لهما مثيل. مع ذلك، فشخصيات بيكولي معروفة بفسادها، وخيانة المثل والفشل كزوج أو عشيق أو أب. قدّم أيضاً الشخصيات الثورية والكوميدية، كان الرجل الذي يرقص على حطام سيارته، ينظر إلى حياته من جديد، يروي السعادة والتعاسة، عاشقاً حزيناً، ومن جهة أخرى مجنوناً وبارداً بعيون حزينة. هو محلل مفتون بالدوافع الشخصية غير المعلنة، بالتشوهات الدقيقة للشخصيات والعلاقات الإنسانية. على سبيل المثال، في فيلم «أنا ذاهب إلى المنزل» (Je rentre à la maison – 2001) لمانويل دي أوليفيرا، ليس هناك أثر للعمر على الشخص أو العاطفة، بل بحث دائم وتشاركي في السعادة والحزن.
كل شيء بطولي كان غريباً عن بيكولي. هذا أحد الأسباب التي جعلتنا نشعر بالعنف الشديد من شخصياته العصبية في كثير من الأحيان. ولكن لم يكن بوسعنا إلا أن نعجب بعظمته السينمائية وأناقته الفطرية وسخريته الذاتية الملحوظة والجاذبية الجنسية الشهيرة لهذا الرجل.