حين يضع صادق الفراجي (1960) عنواناً مثل «سيرة حياة رأس» لمعرضه الذي افتُتح أخيراً في «مركز بيروت للمعارض»، وقبلها عنواناً مثل «في انتظار غودو» لمعرض آخر قبل ثلاث سنوات في دمشق، فإنه يطمح إلى أن تتجاوز ممارساته الفنية إطار الرسم والتشكيل إلى المفاهيم والأفكار والتأملات التي يمكن أن يتغذى منها الرسم، ولا تظهر بنفس الكثافة والحدّة في اللوحات عادةً.
هناك فلسفة أو وجهة نظر تظهر في أكثر من تفصيل أو إيحاء داخل اللوحات، كما أن ترافق ذلك مع شريط فيديو، يمنح المعرض روحاً تجهيزية، ويكسر مسبقاً فكرة المعرض التقليدي المكسورة أصلاً بطغيان اللون الأسود والخلفيات البيضاء على كل الأعمال المعروضة، إذ يخترع الفنان العراقي كائناً عملاقاً منجزاً بالحبر الأسود والفحم وورق الأرز وتقنيات الطباعة، ويمنحه أدواراً ووظائف تتلاءم مع موضوع اللوحة أو الفيديو.
الضخامة هي السمة الأولى في هذا الكائن الذي يبدو أنه يتكرر دائماً مع إضافات أو حذف ورتوش. الضخامة مع التطاول في القامة المنتصبة أو المنحنية ، تمنح الكائن نوعاً من الكآبة الغامضة، أو تجعله منكسراً ومُهاناً ومستوحشاً، أكثر مما تعطيه المهابة أو القوة. أحياناً نراه واقفاً أمام طائر، أو يحاول أن يتوازن في مشية مرتبكة على أسلاك، أو مكتسباً جناحين للطيران ووجهاً فوتوغرافياً هو وجه الفنان نفسه. الرغبة بالوصول أو التحليق هي غاية مدسوسة في هذه الأعمال، أو لعلها رغبة معاكسة باحتمال انتهاء الانتظار، وباحتمال الشفاء من الحالة التي تبدو وكأنها «تروما» لها علاقة بالجرح العراقي المفتوح الذي يتعايش معه الفنان في منفاه الهولندي منذ بداية تسعينيات القرن الماضي. تأويلٌ مثل هذا لا يحتاج إلى بحث شاق للعثور عليه، وربما سيرة الفنان هي محاولات مستمرة لترويض اليأس والفقدان والنفي. ولعل سلسلة «في بغداد، تحت نصب الحرية»، تعزز هذه المعاني، وتحوّل الفنان وكائنه المفضّل إلى نوع من سيزيف عصري تُستعاد فيه أسطورة الصخرة التي يحملها إلى القمة، ثم تنحدر إلى السفح، ويعاود حملها مجدداً. سيزيف نفسه سيشرب «فنجان قهوة مع كافكا» في عمل سابق، ويسافر مع ريلكه في «عزيزي ريلكه .. كلنا مسافرون»، ولكن في النهاية «لا شيء يحدث .. لا أحد يجيء»، كما يقول بيكيت في انتظار شخصياته لغودو.
النصوص والإشارات المسرحية والشعرية والأسطورية تعيدنا إلى فكرة أن اللوحات المعروضة لا تخفي نياتها غير المكترثة بتحقيق انطباعات وجماليات تقليدية. هناك خلفية فكرية وفلسفة شخصية تقترب من العبث والعدمية. السواد الحاضر بكثافة ليس شيئاً عرضياً، والخطوط الحادة ليست ترفاً شكلانياً. في سلسلة أخرى من 14 لوحة صغيرة، يتضاءل الكائن الضخم، ويتحول الأبيض والأسود إلى اسكتشات أولية تتلطَّف فيها العناصر والمفاهيم القاسية. يحدث شيء مماثل في شريط الفيديو الذي يعرض «أنيمشين» حيّاً لخطوط وتعرجات الأبيض والأسود ذاتها، وهي تعيد إنجاز بيوغرافيا الرأس الذي يتكاثر صاحبه في نسخٍ متعددة تتشقلب، وتنقلب على أعقابها، وتتأرجح في حركة دورانية في لوحة أخرى من سلسلة «تحت نصب الحرية».
في النهاية، نحن أمام تعبيراتٍ بصرية لا يتغير فيها الكثير من التفاصيل. قد تختفي يدا الكائن، وقد يبدو ماشياً أو منحنياً أو متطاولاً، وقد يحظى بجناحين ووجه عادي، ولكنه يواصل بثّ الانطباعات بأنه لطخة سوداء كبيرة على مساحات بيضاء مثلما هو وجود الإنسان من وجهة نظر الفراجي الذي يقوّي فكرته عن الفن بتنظيرات فكرية، وبنصوص أدبية موازية تمثّل جزءاً من الاحتياطي الخفي لهذا الفن. هناك صمتٌ جارح في حالات الانتظار التي تترجمها اللوحات. هو صمت شخصي أيضاً، أو ترجمة لما لا يحدث ولا يجيء، أو تأويل للتغريبة العراقية التي بدأها مئات المثقفين والفنانين هرباً من ديكتاتورية صدام حسين وحروبه العبثية. ولعل المخلوق العملاق الذي حضر في معارض وأعمال سابقة أيضاً، هو تلك التركة العاطفية الثقيلة للهوية الأصلية، وصعوبة إدراجها في الوجود الهش والممزق للمنفى.

* «سيرة حياة رأس»: حتى 13 نيسان (أبريل) ــ «مركز بيروت للمعارض» (بيال). للاستعلام: 01/980650

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza




لعنة الحرب

أنجز صادق الفراجي النسخة الأولى من «سيرة حياة رأس» عام 1985، وكان من المفترض أن يُعرض في بغداد، حيث كانت الحرب العراقية الإيرانية في ذروتها. ما نراه في المعرض هو إعادة إنتاج للعمل، مع الحفاظ على النص المرافق الذي يشكل ترجمة لغوية للرسومات المتجاورة في مصفوفة هندسية وخانات متلاصقة. «لا أستطيع أن أرسم شيئاً مفرحاً»، يقول الفنان الذي تخرج في «أكاديمية الفنون الجميلة» في بغداد، واستكمل دراسة الغرافيك في هولندا، وعرض أعماله في أوروبا وأميركا وعدد من العواصم العربية. «لقد انعكست النكبة العراقية على شخصيتي، لا على لوحاتي فقط، وهو ما جعلني أكثر حزناً وأعمالي أكثر مأسوية»، بحسب تعبيره في أغلب مقابلاته.