هل يسقطُ العالَمُ وتتداعى صروحُه بفعل السيَّال الخفيّ كورونا الزاحف بلا هوادة في كلِّ اتِّجاه، والذي يحملُ في ثناياه الموت الزؤام، حاصداً الأَرواح بلا رحمةٍ أَو إشفاق؟! وهل تسقطُ معه النُّظُم المادِّيَّة الجائرة المُجحِفة بحقوق الفقراءِ والبائسين والضُّعفاء، والتي لا تُقيمُ وزناً للرحمة والتسامح والمُفاداة والأُخوَّة الإنسانيَّة؟! هل تسقطُ الدساتيرُ المثاليَّة العظيمة التي تُقدِّسُ الخير والحقَّ والعدالة والحرِّيَّة والمحبَّة والسلام، والتي أَفرغها القيِّمون عليها من رفيع معانيها بفعل الحروب والمظالم والأَطماع؟! وهل تسقطُ الشِّرعة الدوليَّة لحقوق الإنسان، الرائعة المضامين والأَهداف، بعد أَن أَحالتها القوَّة الغاشمة حبراً على ورق؟!وهل تسقطُ مُنظَّمة الأُمم المتَّحدة التي ما برحَت، منذ نشأتها، جسداً بلا روح، وخُطباً طنَّانةً في السلام لم تتعدَّ أَصداؤها جُدران القاعات التي أُلقيَت فيها؟! هل تسقطُ الإمبراطوريَّاتُ والممالكُ والدُّول، وتسقطُ معها الجحافلُ والمُدمِّراتُ وحاملاتُ الطائرات والأَسلحةُ الفتَّاكة والإستراتيجيَّات أَمام كائنٍ خفيٍّ، مجهول الأَصل والهويَّة، يتصرَّفُ على هواه وكأَنَّه القضاءُ والقدَر الذي يتحكَّمُ بشؤون البشر وحياتهم وموتهم إلى أَجلٍ لا يعلمُه إلّا الله وحدَه؟! وهل تسقطُ النُّظُم الماليَّة العالميَّة القائمة على الجشع والطمع والغدر والخيانة، والتي تتلاعبُ بثروات الشعوب والأَفراد، وتحرمُهم منها إرضاءً لرغبات الأَقوياءِ الطامعين؟!
هل تسقطُ اقتصاداتُ العالَم بعد أَن شلَّ ذلك الشبحُ معظم شرايين الحياة فيه، وأَرغم الشركات على الإقفال، وملايين العمَّال على التوقُّف عن العمل هرباً من وجهه واتِّقاءً لخطره؟! وهل يسقطُ الساسةُ والحكَّامُ والرؤساءُ والملوكُ والقادةُ الذين لا يرعَون في الشعوب إلّاً ولا ذِمَّة، ولا يخافون الله، والذين لا عهدَ لهم بالشعور الإنسانيّ، وبالمُثُل العُليا وقِيَم الروح الخالد وعدالة السماء؟! وهل يسقطُ الملايينُ من أَبناءِ الحياة أَمام ذلك المُهاجم النانومتريّ الذي تربَّع على عرش الكُرة الأَرضيَّة، هازئاً بالكراسي والعروش والمُسمَّيات والأَلقاب والقوَّات والثروات؟! هل نشهدُ كلَّ ذلك بعد أَن شهدنا سقوط القيَم الروحيَّة والأَخلاقيَّة والإنسانيَّة وانحلالها في العالَم أَجمع تحت أَقدام المادَّة الفانية؟

كتب الدكتور داهش: «من العار أَن تموت قبل أَن تقوم بأَعمال الخير نحو الإنسانيَّة»

لقد اجتاحَ كوڤيد التاسع عشر كورونا الهزيلُ الجُرم العالَم كلَّه، وأَحاله إلى سجنٍ كبير يُحيطُ به الموتُ والفناءُ من كلِّ جانب، وتقضُّ الآلامُ والمخاوف مضاجع بنيه. وقد استبسل كثيرون في مواجهته، وبذلَ أَطبَّاءٌ ومُمرِّضون أَرواحهم وهم يقومون بالواجب الإنسانيّ. فإذا لم يتدارك حكَّامُ العالَم وقادتُه الوضع العالميَّ المُتهالك بروحٍ من التعاون الأَمثل، وبالسرعة القصوى، من أَجل إنقاذ ما تبقَّى من أَرواحٍ وخيراتٍ وتُراثٍ حضاريٍّ خالد، فإنَّ عالَمنا سيؤولُ إلى السقوط، لا محالة، ليقوم مقامهُ عالَمٌ جديد ينبثقُ من بين الرُّكام والحرائق والمظالم ورُفات الضحايا، وقد تكونُ الكلمة فيه للعدالة والحرِّيَّة والمحبَّة والأُخوَّة الإنسانيَّة والتعاون التامّ بين الشعوب والدول؟! لكنْ، أَليس الأَجدى بالساسة وقادة الرأي أَن يجتمعوا، اليوم قبل الغد، بروحٍ سمحاء، ويوحِّدوا الجهود والطاقات في مواجهة الداهية الداهمة، ويُطفئوا نيران الفتن والحروب والأَطماع، ويُبادروا إلى وضع أُسُسٍ لذلك العالَم الجديد المؤمَّل قبل أَن يتعاظمَ الخرابُ والدمارُ، وتعُمَّ المجاعة، ويتساقطَ المزيدُ من الضحايا؟
«من العار أَن تموت قبل أَن تقوم بأَعمال الخير نحو الإنسانيَّة!»: هذه الكلمة هي من كتاب «كلمات» للدكتور داهش الذي رهنَ عُمره وأَدبه وفكره من أَجل إعادة الاعتبار لقِيَم الروح الخالد والمُثُل العُليا! قرأتُها عندما كنتُ في ربيع الشباب، واتَّخذتُ منها، مُذذاك، نبراساً يُضيءُ سبيلي في الحياة! وقد رأَيتُ بأَنَّها تستحقُّ أَن تُرفَع شعاراً في هذه المرحلة العصيبة من التاريخ البشريّ. شعار يُخفِّفُ من وَقْع المُلمَّة على الأُمم، ويبعثُ فيها الأَملَ بالخلاص، ويستنهضُ الهِمَم، ويوحِّدُ القلوب، ويُلهبُ شُعلة التضحية والمُفاداة في النفوس من أَجل إنقاذ الأُسرة البشريَّة! فعملُ الخير في مثل هذا الزمن المُرّ هو شرفٌ أَثيل يَنشُده الأَبطالُ الرُّحماء ذوو القلوب الكبيرة، فيخوضوا غماره قبل أَن يعانقوا الموت ويدخلوا إلى قُدس الأَقداس، خاشعين بين يدَي الله!
كان الهمُّ الإنسانيّ يحتلُّ موقع الصدارة في اهتمامات الدكتور داهش؛ وكان يسعى لأَن يستبدل وجه الحياة الدميم الشرِّير المُظلم بوجهٍ جميلٍ خيِّرٍ نورانيّ، رغم قناعته بصعوبة تحقيق غايته. ولذلك، كان يُثني على كلِّ ما هو إيمانٌ وخيرٌ وحقٌّ وعدلٌ وحرِّيَّةٌ وفضيلةٌ وإنسانيَّةٌ في البشر والحياة، ويثورُ على كلِّ ما هو إلحادٌ وشرٌّ وكذِبٌ وظُلمٌ واستبدادٌ وحروبٌ ورذيلةٌ ولاإنسانيَّةٌ فيهما. ولم يكنْ يستثني أَحداً من أَحكامه الصارمة، ثناءً كانت أَو نقداً. وكان يؤمنُ إيماناً قاطعاً بأَهمِّيَّة السلوك البشريّ وانعكاساته الحتميَّة على مُجريات الأَحداث التي تقعُ للأَفراد والشعوب، وحتَّى للعالَم نفسه، وبأَنَّ مصاير البشر والكائنات مرهونةٌ بما يأتونه من خيرٍ أَو شرٍّ في الحياة. فالصُّدفة لا وجود لها، في نظره، والسببيَّةُ الروحيَّة قانونٌ كونيٌّ شامل يسري على جميع الكائنات وفق نظامٍ إلهيٍّ وضعه الله لعالَمنا الأَرضيّ. أَمَّا الجزاء، فهو، في قناعته، من نوع العمل؛ فما يزرعُه الإنسان إيَّاه يحصد. ولطالما كان يُردِّدُ الكلمة الشهيرة «إنَّ الله يُمهِلُ ولا يُهمِل»، للتدليل على رحمة الله وصبره ومَنْحه الفرص للجميع قبل أَن تنفذ فيهم أَحكامُ عدالته التي لا مردَّ لها! وكان يُطلقُ تحذيراته المشُوبة بالخوف والحزن على البشر، حيناً، وبالغضب والثورة، حيناً آخر، نتيجة تماديهم في القتل والظُّلم وإشعال الحروب وإغراقهم في الرذائل.
وقد عرضَ في مقدِّمته للجزء الأَوَّل من كتابه «قصصٌ غريبة وأَساطيرُ عجيبة» صورةً بانوراميَّةً شاملةً ومُختصرة للواقع البشريّ، كما يراه، استَثنى منها إنساناً فرداً لا غير، قائلاً: «إنَّ على الكُتَّاب واجباً مفروضاً هو قولُ الحقيقة دون سواها. فلماذا يحاولُ الجميع صياغة قصصهم بإلباسها رداءَ الفضيلة بينما الرذيلة هي السائدة في ربوع دُنيانا! لهذا يرى القارئُ أَنَّ حُكمي على أَبناءِ الكرة الأَرضيَّة من رجالٍ ونساء هو حكمٌ صارم، ولكنَّه حقيقيّ. فالغشُّ هو السائد، والباطلُ سوقُهُ رائجة، والاعتداءُ لا يُنكرهُ مُنكِر، والفسادُ مُتفشٍّ في عواصم الكرة الأَرضيَّة بأَسرها، والفِسقُ والفُجورُ مُسيطران على الجنس البشريِّ بأَسره، والأَطماعُ حدِّث عنها ولا حَرج، وكَسْبُ المال، ولو بطريق الحرام، غايةٌ وليس وسيلة، والرذيلةُ صرعَت الفضيلة، والشرُّ بَسَطَ جناحَيْه وراحَ يرودُ أَرجاءَ الكرة الأَرضيَّة، نافثاً فيها سُمومهُ الرهيبة. وقد استجابَ له أَبناءُ الغبراءِ بقضِّهم وقضيضهم. هذه هي الحقيقة، والحقيقةُ لا يستطيعُ إنكارها إلّا كلُّ جاحدٍ كاذب. فما كتبتُهُ عن السلوك البشريّ أُؤمنُ به إيماني بوجود خالقي، إذْ إنَّه حقيقةٌ واقعة، بل حقيقةٌ مخيفةٌ صادعة لا يأتيها الباطلُ من الأَمام أَو الوراء. رجُلٌ واحدٌ فقط تفوَّق بصلاحه، وصدقه، وصفاءِ روحه، وإخلاصه للحقيقة، وبَذْله نفسه عن الآخرين، وتمسُّكه بالفضيلة المُثلى. إنَّه غاندي نبيُّ القرن العشرين!».
هل نشهدُ قريباً سقوط العالَم ونُظُمه الظالمة؟


كان الدكتور داهش يعتبرُ السلوك البشريّ البابَ الذي يُفضي بالإنسان إلى سعادةٍ أَو شقاء، وذلك بنسبة اختياره للخير أَو الشرّ. وكان يرى بأَنَّ الإلحاد قد تفشَّى، وبأَنَّ الشرورَ، اليوم، قد فاقَتْ، أَضعافاً مُضاعفةً، شُرورَ سادومَ وعامورة، ويُحذِّرُ، المرَّة تلو المرَّة، من مصيرٍ مُرعبٍ يتهدَّدُ الأَرضَ وقاطنيها نتيجةً لذلك. ففي عام 1969، وخلال وجوده في مدينة برلين بأَلمانيا، قام بزيارة ملهى ليليٍّ، وفق برنامج القائمين على الرحلة، فتأَثَّر جدّاً لما رآه يُمثَّلُ في داخله «من إثمٍ وفجور». وتحت عنوان «إباحيَّةٌ مرذُولة»، دوَّن مشاهداته فيه وأَحكامه عليها ضمن كتابه الخاصّ عن تلك الرحلة.
أَمَّا المواقعُ الأَثريَّة التاريخيَّة التي كان يزورُها في خلال رحلاته، فقد كان يستعيدُ من خلالها صفحاتٍ مطويّةً من التاريخ البعيد، بكلِّ ما فيها من خيرٍ وشرّ. ففي روما، وإثر زيارته كنيسة القدِّيس بطرس، حضرَته للتوّ صورُ المآسي التي كان يتعرَّض لها الرسُل على أَيدي البشر، فأَطلق العنان لثورته على مُضطهديهم، قائلاً: «إنَّه المكانُ الذي صُلب فيه القدِّيسُ العظيم بطرس الرسول تلميذُ السيِّد المسيح. وقد طَلب ذلك المُتبتِّلُ القويُّ الإيمان أَن يُصلَب معكوساً، إذْ قال: أَنا لا أَستحقُّ أَن أُصلَب مثلما صُلب سيِّدي الإلهيّ؛ لذا أَطلبُ أَن أُصلَب ورأسي إلى الأَسفل! وهذا ما فعله جلّادوهُ الأَجلاف به! وبعد مرور مئاتٍ من الأَعوام، بُنيَت كنيسة القدِّيس بطرس فوق رُفاته، وقدَّرهُ ملايينُ البشر التقدير العظيم بعدما كانوا يتهكَّمون عليه وعلى رفاقه من التلاميذ الذين آمنوا بالمسيح. الويلُ لكِ أَيَّتها البشريَّة الكافرة! أَيَّتها الإنسانيَّة الغارقة في ذنوبكِ، المُشبَعة بآثامكِ الهائلة! ويلٌ لكِ من يوم الدِّين، لأَنَّكِ اتَّبعتِ شهواتِ قلبكِ، وابتعدتِ عن طريق النور والحقِّ واليقين. بالأَمس صلبتم رجُل البرِّ والصلاح، وقتلتم كلَّ مَن اتَّبع ذلك الإيمان العظيم! واليوم تبنون الهياكل، وتقيمون المعابد فوق رُفاتهم، أَيُّها المنافقون!».
في يقيني أَنَّ مثل هذه المواقف الإصلاحيَّة الصادقة الصارمة التي تنتصرُ للخير وتنتفضُ على الشرّ لا بدَّ وأَن تعود بالخير على الإنسانيَّة! والمستقبلُ هو الكشَّاف! فتَحيَّةُ إكبارٍ وإجلال إلى أَرواح الذين سقطوا وهم يقومون بالواجب الإنسانيّ في هذه الظروف العصيبة، وإلى الذين ما زالوا يخاطرون بحياتهم عند خطوط الدفاع الأُولى، وإلى الذين يبذلون مالَهم لردِّ خطر الموت أَو غائلة الجوع عن الوجوه الحزينة، وإلى الذين وضعوا أَنفسهم في خدمة إخوانهم في الإنسانيَّة لوجه الله الكريم. وتحيَّةٌ روحيَّةٌ خالصة إلى السيِّدة الجليلة فيروز، أَرزةُ الربّ، على استحضارها روح النبيِّ العظيم داوود ومزاميره الخشوعيَّة الخالدة في غمرة المحنة، وعلى تلاوتها صلواته الروحيَّة المُفعمة بالخشوع والخضوع بصوتها المَهيب! وحسبيَ أَن أُردِّد مع الدكتور داهش دُعاءَه: «رُحماكَ، ربِّي، وارفعْ عنَّا البلاءَ الخفيّ. فبقوَّتك الإلهيَّة تزولُ المخاطر، وتتحوَّلُ الشرورُ لخيراتٍ وبركاتٍ عميمة!».

* كاتبٌ لبنانيّ مُقيم في كندا