تَشي بعض النصوص بأرواح أصحابها فلا يمكنك أن تتجاوزها بسهولة. يدفعك نصُّ قرأته إلى معرفة باقي إصدارت الكاتب الذي شعرت لوهلة أنه قريب منك. هذا ما حدث لي عندما قرأت باكورة الكاتبة الليبية عائشة إبراهيم «قصيل» (دار ميم الجزائرية ــ 2016). ولأنني أحببت لغة عائشة في عملها ذاك، أردت خوض غمار التجربة مع ثاني أعمالها «حرب الغزالة» الذي وصل إلى القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» العربية لعام 2020. في «حرب الغزالة» (مكتبة طرابلس العلمية العالمية)، أخذتنا عائشة إبراهيم (مواليد بني وليد ـــ 1969) إلى حضارات موغلة في القدم. أعادت استحضار وسرد أساطير وحكايات زمن مهمل، حيث جبال الأكاكوس (جنوب غرب ليبيا) تروي لنا بدايات الليبي القديم قبل عشرة آلاف سنة. أرادت الكاتبة استنطاق وترجمة النقوش الكهفية، كما وضعت في نهاية روايتها صورة مومياء لطفل الموهيجاج الذي سبق عديد المومياءات. الجميل في روايتها أنها ابتكرت أسطورة نجم الشتات وتشكّل الأرض وظهور جبال الأكاكوس، إذ لا معلومات متناقلة منذ 10 آلاف عام، ولم تتوفر وسائل الكتابة أساساً حينها. لكن الأكيد أن الأساطير عُرفت من خلال تاريخ الأديان كعبادة الآلهة الأم. كما انطلقت من الأنثربولوجيا حيث كان هناك العصر الأمومي الذي كانت فيه المرأة تعبد وتؤلَّه. تسرد عائشة إبراهيم في «حرب الغزالة» صراع القبائل في العصور القديمة بغية الاستحواذ على المناطق الصالحة للعيش حيث الوديان والاخضرار والماء. بطل الرواية هو ميكارت وغزالته سافي التي رباها وأحبها كما لو كانت ابنته، حتى إنه خاطر بحياته لإنقاذها من الاختطاف الذي طالها من بني البشر، ليعيدها إلى الطبيعة الأم حيث قبيلتها مملكة الموهيجا. قادتنا «حرب الغزالة» إلى جملة من الأسئلة منها ما يتعلق بعائشة إبراهيم ومختبرها الإبداعي.
من هي عائشة إبراهيم وكيف تكتب؟
ـــ لا أعرف كيف أعرّف بنفسي، فأنا بطبيعتي البدوية إنسانة متوارية، نشأت في بيئة ريفية مغلقة، لكنني منذ الطفولة مغرمة بقراءة القصص والروايات، ثم بدأت علاقتي بالكتابة من خلال الأنشطة المدرسية من إذاعة وصحف ومجلات. لكن أبرز ما حدث لي في تلك المرحلة، هو الفوز بالجائزة الأولى في الدولة الليبية في مجال التأليف المسرحي. حدث وضعني في دائرة الأضواء، فاتّخذت الأسرة قرارها الصارم بأن أتوارى عن مجال الكتابة تماشياً مع التنشئة التقليدية لبنات الأرياف.
مضت عشرون سنة تقريباً، وحدثت تحوّلات كثيرة على الصعيد الثقافي والاجتماعي، وانتقلت مع أسرتي للإقامة في العاصمة، أصبح بإمكاني أن أطلّ، باستحياء، على عوالم الكتابة والإبداع. كانت إطلالة متأخرة، لكنني أحسبها ناضجةً بما يكفي لكتابة أول عمل روائي لي. باكورتي «قصيل» لم تحظَ بقبول دور النشر المحلية، فلا أحد يراهن على كاتب جديد مغمور، لكن السيدة آسيا موساي مديرة «دار ميم» في الجزائر قبلت الرهان، واستقبلت روايتي بحبّ ونشرتها، واستقبلها القراء الليبيون بحفاوة كبيرة. أقيمت حولها العديد من الندوات، والدراسات النقدية ورسائل الماجستير، ثم أصبحت ضمن المقرّر الدراسي في منهج السرديات في بعض الجامعات الليبية. بعدها أصبح الطريق ممهّداً لإصدار روايتي الثانية «حرب الغزالة» لتصدر عن دار ليبية هي «مكتبة طرابلس العلمية العالمية». التي لم تكتفِ فقط بنشرها، بل قدّمتها إلى جائزة «بوكر» للرواية العربية.

لكل كاتب خلفية إبداعية معيّنة، ما هي خلفية عائشة إبراهيم الإبداعية؟
ــ الأكيد أن العمل الروائي يحتاج إلى مرجعيات يستند إليها الكاتب وتغني مشاهد السرد. ففي رواية «قصيل»، كانت الخلفيات هي المشاهدات المعاشة من الواقع، والسجل الثقافي للمنطقة التي عشت فيها. أما في رواية «حرب الغزالة»، فقد فرض غموض المرحلة الموغلة في القدم جهداً بحثياً مضنياً وموسعاً، شمل دراسة النقوش الكهفية في جبال الأكاكوس في ليبيا وجبال تاسيلي في الجزائر وجبال آير في النيجر، ومقارنتها بنقوش الكهوف في جنوب أوروبا وحوض البحر المتوسط ووسط أفريقيا، واستنطاق دلالاتها، ودراسة نتائج عمليات الكشف التي قامت بها البعثات الأوروبية على النقوش والأحافير والمومياءات في المنطقة، والإثراء البصري بالاطلاع على آلاف اللوحات والنقوش الكهفية التي تصوّر حياة إنسان ما قبل التاريخ، ودراسة مقارنة للتحولات الإنسانية الكبرى. فالتاريخ ليس تسلسلاً زمنياً خاصاً بإقليم جغرافي بعينه، بل هو سلوك مشترك للجماعات البشرية في كلّ مكان من العالم حول كيفية التفاعل ومواجهة التحديات. كما تضمّنت الخلفية قراءة تاريخ الأديان، وعلم الأديان المقارن، واستكناه الرسائل من اللوحات الصخرية والبحث عن صيغ موازية لها في الموروث الديني. رغم أن تلك المرجعيات لا تحتوي، في المجمل، على معلومات مباشرة عن تلك الحضارة المجهولة، إلّا أنّها ضبطت الإطار الواقعي للرواية، بحيث لم تنزلق نحو الخرافة أو الفانتازيا، ولم تصطدم بالحقائق التاريخية.

هل لك أن تحديثنا عن طقوس الكتابة لديك، وماذا يحدث في الغرفة السرية للكتابة؟
ـــ يجب أن أعترف بأن ظروفي ليست مثالية للكتابة. على الصعيد الشخصي، لديّ أسرة بالتزاماتها المنزلية والاجتماعية، ولديّ وظيفة تستدعي الالتزام بالدوام اليومي. أعمل أيضاً محرّرة أخبار صحافية، وهي مهنة تستهلك الكثير من الطاقة الفكرية. أمّا على الصعيد العام، فأنا أقيم في منطقة غير مستقرة. عشت ومازلت أعيش تجربة الحرب والنزوح بكلّ مرارتها وآلامها النفسية. لذلك لا يمكنني أن أدّعي الرفاهية وأقول إنني من أولئك الذين يملكون طقوساً في الكتابة. لست من الذين يجلسون على الشرفة عند السابعة صباحاً ويحتسون القهوة ويكتبون بمزاج رائق. كما أنني لست من الذين يتوافر لهم وقت للسهر يقضونه في التأمل وترقّب الإلهام من وحي الليل ونجومه وسكونه. أنا في أغلب أوقاتي منفصلة كلياً عن الحياة الإبداعية. لكن عندما تحين لحظة الكتابة، فهي لا تستأذن أحداً. تأتي كحالة من حنين غامض لشيء مجهول، لعوالم بعيدة كأنها حياة ماضية سبق لي أن عشتها بروح أخرى وجاءت لتملي تفاصيلها. أعرف تماماً اللحظة التي يجب عليّ أن أستسلم فيها لفعل الكتابة. اللحظة التي يتعاظم فيها القلق إلى منتهاه، وتتخلق الأفكار بإلحاح مثير، وتطلّ الشخصيات برؤوسها من خلف الستائر والجدران. حينها يجب أن أنتبذ لي ركناً لأتصارع مع هذه القوى الغامضة، فأنا لا أكتب فقط من أجل الإنجاز، لكن من أجل التخلص من ذلك القلق، والسيطرة على شحناته المتدافعة.


لا يصحّ أن أقول إن فعل الكتابة هو حالة وحي، وما عليّ إلا الجلوس لاستقبال الوحي. بل إنّ هناك معاناة جديدة ومرهقة جداً، فالكتابة فعل مُراوغ وزئبقي، يتمرتس خلف غطرسة اللغة، ولا بدّ من مداهنات كثيرة لتعلن انصياعها. لذلك، تكون أمامي ثلاث مراحل أخرى ليتخلق العمل: الأولى هي مرحلة الصراع من أجل تطويع الفكرة واللغة والشخصيات، ودفعها لتنتظم في القالب الذي أريده لها. لا شك في أنها ستقاوم كثيراً، وتسير في مسارات غير تلك المقرّرة لها. لكن شيئاً فشيئاً تحدث حالة من المهادنة والاستسلام المبدئي. تأتي المرحلة الثانية وهي حالة التفاعل، فما أن يتشكل قالب عام للنصّ وخطوط واضحة لمساره، حتى تبدأ الشخصيات في التفاعل. تبتكر لنفسها أشكالاً جديدة، وتوحي بأفكار مختلفة، تخلق صراعات في ما بينها فتنتج تدفقات جانبية للسرد من المستحيل أن تكون حاضرة في ذهني في وقت سابق. أما الحالة الأخيرة، فهي حالة يمكنني أن أسميها «التوحد» وهي الانفصال التام عن الواقع والاستغراق في اللاوعي، حيث تحدث حالة من العشق المتبادل مع النص، وتنفتح كل مغالق اللغة، وتدنو الأفكار إلى أقرب مستوياتها. هذه المرحلة هي التجربة الأخطر لأنّه من الصعب التخلص منها. ففي رواية «حرب الغزالة»، وقعت تحت سيطرة النص، حتى إنني لم أعد أقوى على قتل الغزالة. إذ كان من المقرّر أن تموت في إحدى الصفحات، كان الأمر مريعاً، تملّكتني الشخصية ولم أعد أقوى على قتلها، كنت أشعر بحزن عظيم، وإحساس بالخديعة والخذلان. وكلّما حاولت أن أجهز عليها، تهفهف من حولي حرارة روحها، فأخفي عنها خنجري في الظلام. أرجأت أمر قتلها مرات كثيرة، تركتها ترتع فصولاً وصفحات أخرى، إلى أن جاءت النهاية، شعرت بأصابعي ترتجف فوق الحروف وقلبي ينبض بقوة، أغمضت عينيّ وأغمدت السكين في جوفها... وبكيت.

هل يمكن اعتبار «حرب الغزالة» رواية تاريخية؟
في تصوري أنّ رواية «حرب الغزالة» نص مخاتل، وتحتاج إلى قراءة أكثر تبصّراً. هي تبدو للبعض روايةً تاريخيةً، وهذا إجحاف للعمل، فالرواية التاريخية تعتمد على مادة جاهزة من الأحداث والمواقف يقوم الكاتب بإعادة صياغتها في قالب أدبي مع ترميم الفراغات والهوامش المنسية، ويعتمد نجاحها عل مدى قدرة الكاتب على تنسيق ومعالجة المادة وإضفاء جوانب التشويق والمحسّنات اللغوية. لكن في رواية «حرب الغزالة»، لم تكن هناك أي مادة على الإطلاق، لسبب بسيط أن الزمن المتخيّل للرواية هو زمن بعيد جداً يقع في غياهب المجهول، في العصر الحجري الوسيط منذ ما يزيد على سبعة آلاف عام، ولا وثائق أو مصادر تاريخية تتحدّث عنه، لأنه سبق عصر الكتابة بآلاف السنين. وطالما لا مادة جاهزة مقروءة أو منقولة، لا يمكننا أن نعتبرها رواية تاريخية بالمعنى الدقيق. الرواية لم تأخذ من التاريخ إلّا الوعاء الزمني وبعض الثوابت العامة بالاستناد إلى كرونولوجيا العصر الحجري. وبالتالي، فهي عالم متخيّل بالكامل بجميع أحداثها وشخوصها وطقوسها.
حرصت على التزام روايتي شروط الواقعية التي تحقّق مصداقيتها بما لا يتصادم مع التاريخ (ع. ا)

حتى الأساطير التي جاءت بها هي الأخرى مبتكرة ومتخيلة وليست منقولة عن الموروث الليبي القديم كما قد يتبادر إلى أذهان القرّاء. طبعاً لا يمكنني القول بأنّ هذا الفضاء المتخيّل للرواية جاء هكذا بلا أفق واقعي مُثبت، بل هو وفق ضوابط وثوابت يفرضها علم الأركيولوجيا (بما توافر من مواد أحفورية ومومياءات ونقوش صخرية) وعلم الأديان المقارن، والأنثربولوجيا الإنسانية عامة، وطبيعة التحوّلات البيئية والاجتماعية الكبرى التي مرّت على الإنسان القديم منذ خروجه من الكهف. كان الهدف من الخوض في تلك المنطقة الصعبة، هو تحدّي الرواية التاريخية القائمة على الوثائق، والعودة إلى أبعد ما يمكن من الزمن لإنتاج نوع آخر من الرواية تبدأ من نقطة الصفر، من العدم، قبل اكتشاف الحرف، حيث لا وثائق، لتصبح هي نفسها وثيقة تحيل إلى زمن مجهول لم يخُض فيه أحد من قبل، بشروط الواقعية التي تحقق مصداقيتها بما لا يتصادم مع التاريخ.



الرواية بالمختصر
تعود رواية «حرب الغزالة» إلى زمن ما قبل اكتشاف الكتابة المسمارية والهيروغليفية، وتؤسس لتاريخ ليبيا القديم. حاولت عائشة ابراهيم استنطاق وترجمة النقوش الكهفية، وكذلك مومياء طفل الموهيجاج التي سبقت مومياءات الفراعنة بألفي عام. استنطقت من تلك الرموز والمومياء، حبكة تتحدث عن تاريخ ليبيا منذ بداية استقرار الإنسان وتحوّله من صياد يطارد الحيوانات إلى راعٍ ومزارع يقوم بتدجين الماشية وزراعة الحبوب. تسرد الرواية التحولات التي عاشتها القبائل والشعوب في مملكة «الموهيجا»، نسبة إلى الكهف الذي وُجدت فيه المومياء، في أقصى جنوب غرب ليبيا. في تلك المملكة، تقلدت العرش الملكة تندروس بعد شقيقها الذي مات في ظروف غامضة، وخاضت حروباً مع قبائل وممالك مجاورة، لترسيم مناطق النفوذ، كان آخرها حرب نشبت مع حلف قبائل الماغيو الذين سرقوا غزالة الملكة ذات المكانة الأثيرة على قلبها، لما تمثّله من رمزية خاصة لعرشها.