«في الوقت بين سيجارتين» (عنوان ديوانه الجديد الصادر عن «دار النهضة العربية»)، تنبثق قصيدة فوزي يمين (1967). في تلك الفسحة الممتدة بين وهج اللحظة فور اشتعالها واختفاء أثرها عند الانطفاء، يَأتي بنثره، مقتحماً الحدث بفجاجةٍ. لا يأبه بأصل البداية أو موعد النهاية، بل منشغل دوماً في الوسط، لينغمس في كلّ ما هو تفصيليّ، مغربلُ وعابر. «لذا تفاجأ أهلي كثيراً حين سمعوني أردّد في نومي: لا لأعود طفلاً/ لا لأصبح عجوزاً/ بل هكذا لأبقى معلقاً بين رأسي وحذائي/ مضغوطاً كمرطبان». بالمجاز الشعري نفسه، ليس لنا اليوم ملاذ، كبشرية جمعاء، سوى أن نبقى مضغوطين داخل المرطبان، مأسورين في المنازل، محملقين في ظلالنا كأننا في كهف أفلاطون مع تعديلات طفيفة، أنّ جائحة خوتاء جعلت من الخارج محطّ جنون وصخب، وأن الجدران التي نواجهها اليوم في الداخل هي فرصة لتكون ممارسة تأملية تعزّز فعل الاستنباط لإعادة النظر في مسائلٍ يكاد التجريد أن يفرّغها. في الأمس، أفصَح فوزي يمين عما تختبره ذواتنا حالياً «ولي كلما نهضت كل صباح/ أن أراقب العالم أمامي/ يترنح كسكران لم تدركه فكرة بعد/ ويتهدل كفستان جميل/ مطرز بالتعاسة». لكن ماذا عن اليوم مثلاً؟ ماذا يمكن للشعر أن يقول؟ أسئلة برسم الشاعر، عن معنى الشعر في زمن الكورونا، في زمن الموت المباغت الذي يسببّه اللمس.
فوزي مين: ذاتية الشاعر الفردية تختزن روح المجموعة وهواء عصره


في لحظاتٍ حرجة كهذه، يحلّ تلقائياً سؤال المعنى، ما معنى الشعر اليوم؟
ـــ في لحظات حرجة أو غير حرجة، الأمر سيّان، لا معنى للشعر. وكل محاولة لإعطائه معنى هي لأدلجته وضمّه إلى «اللغة الرسمية» لا إلى «الأوتوستراد»، بينما هو الطريق السرية إلى غابة النفس البشرية. الشعر لا يتعاطى مع المعنى، ما هو المعنى أصلاً؟ بل كان وسيبقى قفزة خارج العقل والمنطق. الشعر ابن الغريزة، سليل الصورة، ربيب الأحاسيس والحواس، حتى إنني أعتقد أنه يبدأ من العين. بالتالي، فعلاقته بالأفكار والمعاني ضعيفة وخفيفة وفائدته بمجانيته، إذ لا يهدف فعلاً إلى شيء. بالطبع يعمل على تحريك المشاعر وتحرير الخيال وله هدفان يصوّب باتجاهما: الجمال والحرية. لكن من المؤكد أنه لا يقدم حلولاً اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية. لذا فإنه عقيم، ومن هنا قوّته. نحن هنا لوحدنا على هذا الكوكب، وما من أحد نسأله ليجيبنا عن شيء. ربما يكون الشعر انتباهاً، محاولة، جواباً في خضم الموت المحتدم اليوم. هل يحتمل العالم لحظة شعرية عاطفية؟ أم هل مقبول التحدث عن زهرة أو عن عنق امرأة؟

هذا هو تماماً جوهر الحدث الاستثنائي الذي نواجهه، تشعر أن العالم قرر أن يأخذ قيلولة تاركاً الأيام وراءه عرضة للموت بغفلة. سَبَق أن كتبت في كتابك الأخير «حين تسكت الدنيا كأن أحداً أطبق يده بشدة على فمها/ اَخد سيجارة طويلة الأظافر وأشعلها»، وعليه فهل تظن أن باستطاعة الشعر اليوم أن يقدم توصيفاً حقيقياً للعالم أم أنه عاجز عن التعبير؟
ــــ الشعر يُقدم توصيفاً ذاتياً للعالم ولا أعرف إذا كان حقيقياً (أصلاً هل الحقيقة موضوعية أو ذاتية؟). وربما اليوم هو أكثر قدرة على التعبير، إذ يواجه الحياة والموت ضربة واحدة، أي عصفوران بحجر واحد. ويبدو أن لديه كل الوقت لمواجهة ذاته والعالم. لا يعجز الشعر عن التعبير أمام الراهن مهما كان مأساوياً، بل بالعكس تماماً، ينشب أظافره أكثر، ويشتدّ، ويصبح أكثر قابلية للاستفزاز. فهو بحاجة إلى المشاعر المتطرفة المسنونة ليسخن ويغلي، تلك التي فوق الذروة أو تحت القعر. وفي استطاعته، بحيلته اللغوية وسحريته البصرية، أن يتآمر مع الواقع إذا أراد، ويتماشى مع مبدأ «هكذا تسير الأمور»، أي في استطاعته الاحتفال بالحياة ودفش الموت قليلاً. لكن إلى متى؟

انطلاقاً من طرحِك هذا، ومن جُملة الخواطر التي كتبتها على فايسبوك، قُلت معلّقاً على الوضع «الكوروني» الحالي: «كما يحتاج الأمل إلى شجاعة، يحتاج اليأس إلى شجاعة أيضاً». هل تعتقد أن هذه اللحظة ما هي سوى توكيد على ما كان الهم الشعري مشغولاً به أي أن القصيدة ما هي إلا خلاص فردي؟
ــــ ربما يبدو الشعر خلاصاً فردياً لكن لطالما كان جماعياً، بمعنى اَخر، ذاتية الشاعر الفردية تختزن روح المجموعة وهواء عصره. ما يحدث اليوم هو من مسؤوليتنا جميعاً، ولا أحد يمكنه التنصل مما يجري. الفيروس من اختراعنا، وليس لعنة من الآلهة أو نتيجة الحروب، بل نتيجة مجتمعاتنا المعاصرة. من هنا، تبدو بشاعته أكثر وفداحته أكبر. لذا ها هي المعادلة: كما في العالم كذلك في الشعر.

يتراءى لكَ، في حال قررت أن تنظُر إلى الواقع من بعيد، أن العالم يشبه إلى حدّ بعيد ما كتبه اللورد بايرون في قصيدته «الظلام» عندما رسم مشهدية الأبوكاليبس: حرائق تلتهم الأرض، مجاعة، تعفنّ، حروب ودمار... واعتبر البعض أن الشاعر هو اَخر من سيموت على وجه الأرض، كونه سَبقَ وحذر من المسار الذي يحذوه الإنسان. إذا فعلاً صحّت نبوءة بايرون، على من يلقي هذا الرجل الأخير اللوم على كل هذا الهلاك؟
ـــ نبوءة؟ أفضّل «رؤيا» بحسب رامبو. الشاعر آخر من سيموت؟ بل أول من مات حين رأى ما رأى، وحين التقط «لاقطه» أكثر من غيره. وما هذا الذي يرويه منذ البداية إلا نزاعه الأخير. إذا كان هناك لوم يلقيه، على الإنسان أن يلوم نفسه. فالهلاك من صنعه، والأبوكاليبس شغل يديه. من هنا يبدو اللوم مضاعفاً لأنه مصحوب بالذنب. الذنب مما اقترفه هو. أحمق وجشع، هذه حقيقة الإنسان الأول والأخير وأولاً وآخراً.

وإذا كان لا بد اليوم من صوت شعري صادح، ماذا يمكنه أن يقول؟
ـــ يا أصحاب النفوذ تابعوا الكذب بينما يتابع شعبكم الموت. هذا أقل ما يمكن أن يقوله، أقل من هذا سيكون ضحكاً على الذقون.

بالحديث عن الأبوكاليبس، كتبت لوري مور مقالاً في مجلة New yorker اعتبرت أننا نعيش أبوكاليبس الزومبي حيث يصبح انتقال الفيروس غير ممكن عندما تموت جميع الأجساد المضيفة، وإذ نمارس التباعد الاجتماعي، إننا نتظاهر بالموت، لكننا نكذب بطبيعة الحال. هل تعتقد أن مهمة الشاعر اليوم أن يأخذ بنصيحة هايدغر، أي التصالح مع فكرة الموت باعتباره سرّاً يمكنه أن يفتح آفاقاً جديدة وليس مشكلة؟
ـــ مهمة الشاعر اليوم، إذا ما كان هنالك من مهمة، أن يعبّر عن هشاشة الحياة وجمال فنائها، وكم هي لذلك عزيزة على قلبه، وكم كل لحظة فيها لا تشبه أختها، ومن هنا سرّها. الموت موجود بشكل دائم ولكن الإنسان ينشغل عنه، يتلهى لينساه. اليوم، أصبح أكثر عرضة لمواجهته، مسجوناً في جسده، لا يستطيع التماهي به مع غيره (لا لمس، لا تقبيل...) وليس لديه القدرة، كما له عادةً أن يفعل، على ضبط مواقيت الحياة وتوزيعها على الاَخر. شيء من الهواء، شيء من النسيان: هذا ما يجعل الحياة تطاق ولم يعد موجوداً. على الإنسان أن يمتلك القدرة على تحمّل الحياة. في الخارج، أسهل. حتى هذا الخيار لم يعد موجوداً.

ما هو موجود أن الجميع في فضائه الآمن في الحجر المنزلي. هل تتطلب الحالة الشعرية برأيك هذا النوع من العزلة تحديداً؟
ــــ لا شك في أن الشعر بحاجة دائماً إلى العزلة، لكن العزلة المختارة لا العزلة المفروضة. العزلة التي تضج بالناس والخيار والحرية. هذه العزلة اليوم أشبه بسجن. لكن حتى في هذا الفضاء الطوعي، يبقى الشعر يجترح المعجزات. كالسحر، كالحلم، يلتصق بأقرب الأشياء وفي الوقت نفسه ينجرف بعيداً. الشعر، «المتخيل»، ينتصر به الشاعر. إحدى الوسائل للخروج من ورطة الحياة، من حيث نحن اليوم، من المقابلة التي نجريها الآن. ليس ذلك بالأمر السهل، أليس كذلك؟ الغامض هو المستقبل. الفكرة التي بلا غد. وربما القليل من الغموض يضيف الإثارة على ما يجري حولنا، ألا توافقني الرأي؟ إذن اكتب عن... لا تنتهي جملة بحرف جر، لماذا؟

هنالك قول لبودلير: «إن الناس ينامون يومياً بجرأة غير معقولة لولا أننا نعرف أنها جرأة الجاهل بالخطر»، هل تعتبر أن خمول الحجر أخطر من خطورة الوباء؟
ـــ ما من خمول في الحجر، بل هناك يقظة تامة وتوتر وقلق وأرق. نوع من مواجهة كاملة ومفتوحة. صراع، معركة، حب. فحين تتعطل الحياة اليومية في الخارج ويتوقف إيقاعها المعتاد، يصبح بمقدورك في الداخل طرح كل التساؤلات عليها وحول معناها. ربما هناك شيء من الضجر جراء الفراغ الممتد في توالي الأيام المتشابهة. لكن من الممكن أن يكون الضجر جميلاً هنا، أشبه بمواجهة أو بلقاء مع الذات. لكن في المقابل، لدى الإنسان قدرة هائلة على التأقلم، جبارة، مخيفة وأحياناً فاسقة، انتبه إلى «فاسقة»: الكلمة أنيقة لميلٍ بشع.
كل محاولة لإعطاء الشعر معنى هي لأدلجته وضمّه إلى «اللغة الرسمية»


لا شك في أن الكورونا صفعة قوية في وجه التفوّق الهائل الذي يدّعيه الإنسان، ويتهيأ لك، في لحظةٍ ما أن هذا الحجر المنزلي ما هو إلا اختباء من الهزيمة. لكن «ما هو أخطر من خيبة الأمل هو أن تعتاد على خيبة الأمل» كما يقول كامو، هل تشعر أننا نتعوّد على هذه العادة رويداً رويداً؟
العادة أقوى شيء صحيح. لكن لدى الإنسان القدرة على كسرها بشكل مستمر والتعوّد على غيرها. وهذا ضرورة لاستمرار العيش. الحاجة أم الاختراع، نخترع عاداتنا. ربما هذا الحجر ليس اختباء بل عراء، وربما ستودي هذه «الهزيمة» إلى انتصار، من يدري؟ حكمتي الدائمة: «الأمل رذيلة، واليأس فضيلة، وكل صامد منتحر أصلاً».

عند كل منعطف يواجه الإنسانية، يبرز نمط كتابة جديدة، يرتكز إلى الشكل أو المضمون أو الاثنين معاً، هل تعتقد أن مرحلة ما بعد الكورونا ستنتج أنساقاً كتابية جديدة ومختلفة؟
ـــ ربما هذا الحجر مع أجسادنا، كسجن، سيوّلد شعراً جسدياً خالصاً. وجهاً لوجه مع الجسد. معه ومنه وعبره وإليه. هذا الشعر الجسديّ، كيف سيتجسد؟ لا أدري.