رحل مطلع الأسبوع الحالي عازف الرق الكبير، في السنّ والمهنة، ميشال بقلوق (معروف أيضاً بميشال مرهج أو ميشال مرهج بقلوق) في الولايات المتحدة، عن 91 عاماً. إنه ضابط الإيقاع في مئات التسجيلات والحفلات الموسيقية اللبنانية والعربية، منذ الخمسينيات حتى آخر إطلالاته الحية في نيويورك، وأبرزها تلك التي تعود إلى شتاء 2018 عندما اعتلى المسرح حاملاً سنينه التسعين بخفة متناهية وجهاز الأوكسيجين الموسيقي خاصّته، آلة الرقّ، برفقٍ متناهٍ، لتقديم «مشروع بالأفراح»، في استعادةٍ أمينة لألبوم «بالأفراح» (الوثيقة الموسيقية الشرقية البانورامية الخالدة التي أعدّها زياد الرحباني) الذي شارك في تسجيله، عام 1975، قبل اندلاع الحرب الأهلية (صدر عام 1977). تلك الحرب التي أجبرت ميشال وعائلته على مغادرة البلد نهائياً عام 1989 باتجاه الولايات المتحدة، بعدما كادت تقتله، مطلع الثمانينيات، رصاصة قنّاص أصابته داخل منزله.ميشال بقلوق مولود في القدس المحتلة عام 1928. والده، اللبناني الأصل، رحل عام 1939 فوُضِع الفتى الصغير في مدرسة داخلية تابعة لأحد الأديرة المقدسية. وهناك، تعلّم النظريات الموسيقية، ليشكل ذلك إضافة مهمة في مسيرته كعازف إيقاع يجيد قراءة النوطة، الأمر الذي كان ولا يزال غير رائجٍ في الموسيقى العربية. بعدها، توظّف في «إذاعة الشرق الأدنى» (أسسها في القدس الاستعمار البريطاني) في القسم الإداري، وثم انتقل منه إلى قسم الموسيقى بعدما علم حليم الرومي بإمكاناته في العزف على آلة الرقّ، التي «جرّه» إليها استماعه إلى أغاني أم كلثوم، حيث كان يرافقها ابراهيم عفيفي، صاحب الأسلوب الخاص الذي تأثر به بقلوق. بعد النكبة، انتقل بانتقال الإذاعة إلى قبرص، ومنها لاحقاً إلى بيروت حيث كانت خلية الثورة في الغناء والموسيقى العربية قد بدأت مشروعها مع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز وغيرهم من الأسماء المرموقة التي عمل معها عازف الرقّ المحبوب، من نصري شمس الدين وصباح ووديع الصافي وفيلمون وهبي وزكي ناصيف وتوفيق الباشا، إلى رموز الأغنية المصرية الذين تردّدوا إلى لبنان، أمثال فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب ووردة الجزائرية وحتى أم كلثوم التي شارك في إحدى حفلاتها في بيروت، عازفاً على المزهر بدلاً من الرقّ لمتطلبات الأغنية الوحيدة التي ساهم في تنفيذها (نهج البردة). نواة مسيرته الموسيقية تتمثّل في مشواره الطويل عازفاً إلى جانب فيروز، في الاستديو كما في المهرجانات والحفلات المحلية والعربية والجولات العالمية، حتى بعد انتقاله إلى أميركا، إذ شارك في حفلات «سفيرتنا إلى الأخلاق والتفاني» التي أقامتها هناك بعد الحرب. وهكذا كان يفعل مع فنانين عرب آخرين، عندما كانوا يستعينون به في جولاتهم الأميركية.


إلى جانب ضبط إيقاع الصناعة الموسيقية العربية على مدى عقود، علّم ميشال بقلوق الإيقاع في الكونسرفتوار الوطني اللبناني لنحو ربع قرن، وتابع في هذا الاتجاه، إن كان في المعاهد أو بالمباشر، بعدما استقر في أميركا، حيث تمحور نشاطه كموسيقي، من جهة أخرى، حول علاقته الوطيدة بمهاجر آخر، هو عازف الكمان والعود الفلسطيني الأصل، سيمون شاهين. وفي السنوات الأخيرة، تأسست فرقة تضم أميركيين وعرباً تحمل اسم «بالأفراح» (عنوان الألبوم المذكور أعلاه والذي يترجم معناه، من العربية إلى العربية كما إلى غيرها، بشكل خاطئ: «بالأفراح» هي عبارة يقصَد بها، في القاموس الشعبي، الشكر ولكن بقالب التمنّي، وتحديداً تمنّي تكرار الطقس الغذائي ــ شرب القهوة أو الوليمة ــ في مناسبات الفرح في دارة المضيف، وعلى رأس هذه المناسبات: الأعراس). هذه الفرقة تأثرت في «الوصلة» (بالمعنى غير التقليدي الذي يفرض وحدة المقام بين المقطوعات) التي خيّطها زياد الرحباني، فقررت، بالإضافة إلى اعتماد التسمية كاسمٍ للمجموعة، استعادة العمل «حرفياً»، باستثناء بعض التقاسيم الإضافية، لزوم العرض الحي. وعندما علمت أن بقلوق هو عازف الرقّ في التسجيل الأصلي، قررت «تعيينه مرشداً أعلى» لجمهورية الفرح هذه، وإشراكه في سلسلة الأمسيات التي تنوي تقديمها. هكذا، نسمع في تسجيلٍ نُشر على يوتيوب الألبوم كاملاً، في محاكاة دقيقة لمجريات الوصلة الأصلية، وتحت إشراف وضبط الشيخ التسعيني. المفارقة بين النسختين أن أجواء التسجيل الأصلي، في الاستديو، أقرب إلى الحفلة، وأجواء التسجيل الحي، على المسرح، أقرب إلى الاستديو! ورغم الملاحظات (التي تطال جانباً يستحيل تصحيحه: نقص الإحساس الشرقي عند العازفين الأميركيين، حتى في المقامات التي تخلو من مسافة ربع الصوت كالنهاوند والعجم)، يمكن النظر إلى هذا المشروع كأنجح استعادة (لناحية الأمانة الفنيّة) لمشروع يحمل توقيع زياد الرحباني في التأليف و/أو الإعداد والتوليف ولا يشارك هو، أي زياد، شخصياً فيه.
ترك ميشال بقلوق الدنيا في بلاد العم ترامب، وترك لنا في بلادنا مساهماته في ترسانة موسيقية، لكنه لم يترك اسمه على تلك الاسطوانات التي سجّل فيها. فهذه ليست من العادات المألوفة في موسيقانا (ذكر أسماء الموسيقيين، بدلاً من الاكتفاء بالمغنّي، والملحن والشاعر)، ولو من باب التوثيق لا التقدير. علماً بأنّ وحده زياد الرحباني حاول تغيير هذه العادة الظالمة (مثلاً، نعرف أن ميشال بقلوق شارك في ألبوم «أبو علي» أيضاً)، في تسجيلاته الخاصة (وبعض ألبوماته لفيروز). فاليوم لا نكتب عن ميشال فحسب، بل نوجه من خلال ذلك تحية لكل موسيقي، راحل أو حيّ، عمل بتفانٍ ولم يسأل عن اسم أو شهرة.