أمضى جان جينيه أشهراً في مخيّم الفدائيين الفلسطينيين في الأردن بداية السبعينيات، قبل أن يضطر إلى اللجوء لبيروت بعد أحداث أيلول الأسود في الأردن. مؤلفات ومذكّرات كثيرة كتبها الشاعر الفرنسي عن تلك التجربة، منها ما يوثّق ما رآه في مخيمَي صبرا وشاتيلا لدى دخوله بعد ثلاثة أيّام من المجزرة. من كلّ هذه الرحلة الطويلة نستعيد لحظة واحدة، تلك التي لاحت له فيها أضواء الجليل، ووصفها بـ«مدى البرتقال». تجرّنا قصّة تلو الأخرى على الموقع الإلكتروني لـ«المتحف الفلسطيني» في بيرزيت. حكاية جينيه إحداها، وقد استلهمت منها المنسّقة الفنية أديل جرّار عنوان معرض «مدى البرتقال»، لاكتنازها المعنى المكثّف للأرض الفلسطينية.
خريطة منمنمة لفلسطين، من المحتمل أنها من الخرائط التي رسمها القراصنة الأوروبيون في القرن السادس عشر

دعانا المتحف أخيراً إلى زيارة مرئيّة للمعرض مع جرّار، عبر فيديو تشرح فيه مقاربات متعدّدة لتمثيلات الجغرافيا الفلسطينية كما صوّرتها الملصقات السياسية الفلسطينية في الستينيات والسبعينيات. الملصق الذي تطوّر في محطّات كثيرة، خصوصاً لدى افتتاح منظّمة التحرير الفلسطينية قسم «وحدة الفن»، ابتكر وأعاد خلق الطبيعة والمشهد الفلسطينيين كغيره من الوسائط الأخرى، مانحاً الأرض المسلوبة معاني مختلفة وفق الأحداث والتحوّلات السياسية الحاصلة حينها. من الملصقات، ننتقل إلى خيارات ووسائط وافرة يتيحها الموقع الإلكتروني للمتحف. إذ أنه قام في السنوات الماضية، برقمنة قسم واسع من مجموعته، تجعل موقعه كمتحف موازٍ آخر.
الرقمنة خيار فعّال لمواجهة عزل سابق على الحجر الصحي جرّاء فيروس كورونا. يعلم المنظّمون أن الحدود والاحتلال الإسرائيلي ما كانا ليمنحاننا إلا زيارة افتراضية في الأيّام العاديّة. والآن، مع انتشار الوباء، حيث أضيف عزل إلى عزل آخر، يواصل المتحف استحداث محتويات ومعارض رقميّة، وزوايا جديدة منها «متحفك في بيتك» لتقديم ورش عمل أونلاين للعائلات والأطفال المجبرين على التزام منازلهم. الأنشطة المستجدّة، فرصة لاكتشاف ما تخبّئه مجموعته الإلكترونية، منذ أن بدأ يشاركها حين افتتح أبوابه سنة 2016 تحت شعار تجاوز الحدود. وبخلاف ما قامت به المؤسسات الثقافية والسينمائية حول العالم بنشر أرشيفاتها، فإن مشاركة المتحف الفلسطيني مقتنياته إلكترونيّاً تتّخذ معنى مختلفاً كليّاً.

مريم كوزما برفقة أحفادها سميرة ووليام وأليس عودة - سنة 1927

إنها ليست خطوة آنية وبديلة، تنتهي مع انتهاء الوباء، بل أحد الأساليب المعدودة المتاحة أمامه لاستقبال الزائرين وإطلاعهم على محتوياته التي تجمع بعضاً من الإرث الفني والثقافي الفلسطيني، بينما تتابع أعمال جيل جديد من الفنانين ممن يعملون في الداخل والشتات. هناك مهمّة أساسية للمتحف بسعيه إلى تجميع السرديّة الفلسطينيّة وحفظها لمواجهة المحو والاستلاب. إنّها عمليّة شاقّة. ومساهمة المتحف ليست إلا مبادرة من الجهود المبذولة لكتابة تاريخ للبلاد. يقدّم لنا قصصاً كثيرة، سيراً خاصّة وشعبية توسّع مفهوم التاريخ بشكل عام والهويّة الفلسطينيّة تحديداً. نقلّب الصور فنعثر على اقتراحات لا تحصى لفلسطين بكل مكوّناتها في «الأرشيف الرقمي». في هذا القسم، هناك ما يقارب 5200 وثيقة، لا يمكن إيجاد تصنيف واحد لها: خرائط مفصّلة، طوابع بريدية، ملصقات الثورة، صور في مدارس البعثات الأجنبيّة، وتلك الصور العائلية التي لا تكفّ عن الإشارة إلى التهجير الذي حوّل هذه الممتلكات الخاصّة واللحظات الحميميّة إلى وثائق عامّة، منها لقطات لعروسين، ولأب يجلس مع ابنتيه في استديو تصوير. يرافق هذا الأرشيف فلسطين في علاقتها مع الدول الأخرى من خلال رسائل ديبلوماسيّة بعثت من فلسطين وإليها، وفي الشتات لاحقاً في صور عن الحرب الأهلية اللبنانية، وأعمال تطريز أنجزتها نسوة المخيّمات الفلسطينية في لبنان.
يضع الموقع أدوات بحث متعدّدة للدخول إلى محطات تمتد من 1800 حتى 2019. هكذا لا تبقى هذه التركة مجرّد أرشيف من زمن آفل. عمليّة التجميع مستمرّة ومفتوحة كما نرى في قسم «رحلات فلسطينيّة» بشقّيه: المسرد الزمني، وقصص. هذه الرحلات نتيجة مشروع مشترك بين المتحف و«مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة» ومشروع «تصوير فلسطين» لـ «إنتاج رواية فلسطينية شاملة» بكّل ما تحمله هذه الجملة من اتجاهات متشابكة ومتفرّعة لإنتاج الرواية.

ملصق ملون لخريطة لبنان وقد أضيف الجزء الجنوبي منها إلى فلسطين، باعتبارها جزءاً من كيان الاحتلال الإسرائيلي كما تم تقديمه خلال مؤتمر السلام عام 1919 | انقر على الصورة لتكبيرها

لن نقع على ماض يصيب بالضجر في المسرد الزمني. تتوالى التواريخ الفلسطينية منذ بداية الاحتلال العثماني سنة 1500، ضمن تصميم بصري لافت، يسهّل من عمليّة هضمها، أو رسم سياق عام لها، بمنحنا محطّات مختصرة لتطوّر التاريخ والأحداث الفلسطينية، والتجارب النضالية والفدائيّة الأساسية. نرى كيف قضمت الأرض من قبل الاحتلال الإسرائيلي تدريجاً حتى سنة 2016. كتابة تاريخ للبلاد تصطدم بعقبات وتساؤلات مضاعفة بسبب احتلال سلب سرديّاته، وفتّت النسيج الاجتماعي بتهجيره السكان واعتقالهم. يضاف ذلك إلى الاستيلاء على الأراضي في المدن والأرياف، ما أدى إلى تبدّل وتحوّل أهمية المركزيّات الجغرافيّة. كلّ ذلك يجعل من كتابة التاريخ خطوة متعذّرة أمام غياب المراجع الكافية للمؤرّخين الفلسطينيين.
تستحوذ كل سرديّة مهما كانت مهمّشة على اهتمام قسم القصص الثقافية والاجتماعيّة والاقتصادية، بتنقيبه عن فلسطين في الخيال الشعبي والحكاية الشفهيّة والموسيقى. هاملت حين زار فلسطين، المقاومة الأولى، وانبعاثها مجدّداً في حكايات ألهمت أجيال المناضلين الذين أتوا لاحقاً. هناك استعادة لتجارب مؤرخين وفدائيين وصحافيين وكتاب وفنانين.
هذه الوثائق هي مواد أوّلية أمام الباحثين والفنانين، لإعادة توظيفها واستخدامها


تحدي التاريخ الفلسطيني يكمن قبل كلّ شيء في تظهير سرديّات الحياة التي خفتت أمام النكبات السياسية والدموية، والمفترقات الكبرى. لكن هناك شعور بأن هذا التاريخ، رغم كل جهود المتحف مع مؤسسات ثقافية فلسطينية وعالمية أخرى، يبقى ناقصاً. أو هو مجرّد خطوة أولى لكتابته، حيث لا يكتمل إلا بإعادة قراءته والبحث فيه. الوثائق هذه هي مواد أوّلية أمام الباحثين والفنانين، لإعادة توظيفها واستخدامها بسياقات جديدة تتجاوز ما حفظناه حفظاً أعمى عن فلسطين. وهذا ما يسعى المتحف الفلسطيني إلى تحقيقه، في معارض تجمع الإرث الشعبي والحديث مع أعمال معاصرة تعيد قراءتها ومساءلتها اليوم، بعد كلّ التحوّلات التي حلّت بفلسطين. أبرز هذه المعارض هو «تحيا القدس» الذي احتضنه المتحف قبل عامين. بالاستناد إلى مجموعة أسئلة، حاول المعرض تخليص عبارة «تحيا القدس» من استخدامها الشعاراتي عبر قراءة تاريخ المدينة الكولونيالي وحاضرها تحت سلطة الاحتلال. أعمال فنية متعددّة الحقبات والوسائط اجتمعت فيه، لكن لا مجال للاستفاضة بالكتابة عنها هنا. ربّما الأجدى القيام بزيارة ولو افتراضية إلى المعرض الذي بات متاحاً على الموقع الإلكتروني بتقنيات عالية تسهّل الاطلاع التفصيلي على أعماله ونصوصه.

http://www.palmuseum.org