قبل أيام، وفي خضم استمرار تخبّط العالم، وانشغاله بتعداد أرقام مأساته المتفاقمة، سجّلت المناضلة التركية، والفنانة الأممية، هيلين بوليك، رقماً من أرقام التوق الإنساني المعانق للحرية: 288 يوماً من المقاومة المدوية وتحدّي الجوع قبل أن تُستشهد.الفنانة اليسارية الملتزمة، قولاً وفعلاً، أرادت ونجحت في أن تسطّر صفحة ثورية مجيدة. صفحة غنية بالدروس النظرية والعِبر العملية عن شكل ومعنى البطولة التي تسترخص الحياة لا حبّاً بالحياة وحسب بل وأيضاً في سبيل صنعها كأرقى وأجمل ما يكون.
جيلاً بعد جيل، ومقاوماً بعد آخر، يواصل المناضلون ومقاتلو الحريّة الحقيقيون رسم مشهد العالم البديل، من خلال مواصلة حمل الشعلة التي تستعر برغم الأنواء وعصف الرياح والأعاصير. فالحلم بالعدالة والعمل على تحقيقها بالنضال الثوري الصميم وبشتى السبل المتصلة هو الحلم الوحيد الذي يستحق البذل والإصرار الذي أظهرته المناضلة الشجاعة التي قضت ولم تتجاوز الثامنة والعشرين من عمرها.
ها هي بوليك، ومن خلال دلالات ورمزية فعلها الشجاع تؤكّد صحّة وصوابية الطريق الذي سلكه من سبقها من الرفاق، بل هي أكّدت في ممارستها فعل المقاومة والرفض وتحدّي السجّان على بنوتها الصميمية والحقيقية لرفيقها شاعر الحريّة ناظم حكمت ولباقي رفاقه الأتراك وغير الأتراك من «الحالمين»، فكراً وممارسة، بواقع أقل جوراً وامتهاناً وتسلّطاً. صحيح أنه الطريق الأطول والأصعب، لكنه، وبحسب التجارب والدروس، أضمنها للوصول، إذ لا وجود لطريق آخر إذا ما أردنا إعلاء شأن الإنسان وصون حقّه الطبيعي والبديهي بالحياة الحرة والكريمة.
استشهاد المغنية اليسارية هيلين بوليك إضافة من إضافات الفعل الثوري والمقاوم الذي يعانق الأفعال المماثلة والمكملة في غير بقعة من البقاع التي تواجه «القدر» الإمبريالي الذي يريد للعالم أن يستسلم، هنا في فلسطين أو في غيرها من بلاد العرب والعالم... وهو بمثابة كشف إضافي لمدى قباحة ومأفونية وتفاهة يسار الجملة الثورية الذي لا يكّف عن التشدّق بالعبارات الفارغة من المعنى (مثال تشدّق يسارنا اللبناني العاجز والمشلول بـ «الثورة اللبنانية»!).
مقاومة بوليك ومن ثم استشهادها كشف ويكشف الفارق الهائل بين يسار الجملة الثورية ويسار الفعل الثوري. وإذا كان صحيحاً أن صوت يسار الجملة الثورية أعلى فالسبب واضح وجلي، ويكمن في مهادنته العملية واندراجه المستتر وأحياناً المعلن في عملية تأبيد الواقع المختل وتزيينه لا أكثر ولا أقل. أما صوت يسار الفعل الثوري فهو، وبرغم خفوته النسبي، يبقى الأبقى والأفعل لا لما يجترحه من آفاق أو يراكمه من معانٍ وحسب، بل لما يشكله من ضرورة ثورية لا غنى عنها لكسر واقع التوحش الليبرالي المستفحل.
طبعاً، لا داعي لاسترجاع أو استعراض السقطات التي طبعت وتطبع، تاريخ يساريي الجملة الثورية، سواء في لبنان أو في سورية وغيرهما من البلاد العربية التي أُغرقت بالحروب والمجازر، فالمناسبة أجلّ من تلطيخها بذكر هذا الصنف الرديء، والذي لا يني يزداد رداءة يوماً بعد آخر. ومع ذلك لا بدّ من الإشارة إلى جملة التشابهات والمشتركات التي تجمع بينه وبين يساريي «التوبة» و«طلب المغفرة». فلا أحطّ من اليساري التائب، أو ذلك الذي لم يبلغ بعد. فاليساري التائب هو صنو القوّاد، بل هو القوّاد الحقيقي الذي يتفوّق على سائر القوادين المعروفين من حيث استعداده للبيع والمتاجرة وممارسة الرضوخ الذيلي لأسياده الجدد من أهل اليمين. فهو بالنسبة إلى هؤلاء أقل من أن يكون يمينياً. فممارساته التي أخرجته من صفوف اليسار لا تمكّنه من اكتساب الهوية اليمينية التي يلهث خلفها، فضلاً عن غيرها من الهويات فيصبح كاللقيط الذي يؤجر خدماته البائسة لهذا أو لذاك في ضرب من المياومة السياسية والثقافية المدفوعة الأجر ليس إلا.
الارتقاء بالحرية هو الارتقاء الأسمى الذي لا يضاهيه ارتقاء وهو عين ما سعت إليه وحقّقته رفيقتنا المناضلة هيلين بوليك. لقد تحدّت السجّان التركي ومن خلفه عرّابوه الكثر. وكما فيديريكو غارسيا لوركا، الشاعر الإسباني، الذي توقّع موته واختفاء جثته من غير أن يبالي، فقد أقدمت هيلين واختارت الموت في سبيل الحياة.
«السفّاح التركي» الذي قامر بالدماء التركية والعربية في عام 1915 يواصل أوهام الاستعادة الكاريكاتورية والهزلية لمجد أجداده العثمانيين الإشكالي... وفي الغضون يتابع المناضل والفنان إبراهيم جوكشك رفيق هيلين ورفيقنا إضرابه عن الطعام في معركة الحريّة التي لا بد من انتصارها وهو ما لن يتأخر.