في أجواء من الحجر العالمي وانتقال الأنشطة الفنية والثقافية والموسيقية إلى العالم الافتراضي، يُعلن اليوم اسم الفائز بـ«الجائزة العالمية للرواية العربية 2020» بدورتها الـ 13 (تبلغ الجائزة الكبرى 50 ألف دولار أميركي، فيما يحصل كلّ كاتب وصل إلى القائمة القصيرة على 10 آلاف دولار أميركي مع ترجمة الأعمال في القائمة إلى لغات عدة). لجنة التحكيم التي يترأسها الناقد والكاتب العراقي الدكتور محسن جاسم الموسوي، بعضوية كلّ من فيكتوريا زاريتوفسكاي، وأمين الزاوي، وريم ماجد، والزميل بيار أبي صعب، اختارت هذه السنة خمسة كتّاب وكاتبة ضمن القائمة القصيرة: العراقية عالية ممدوح عن روايتها «التانكي» (منشورات المتوسط)، والمصري يوسف زيدان (فردقان ـ دار الشروق)، واللبناني جبور الدويهي (ملك الهند ـ الساقي)، والسوري خليل الرز (الحي الروسي ـ منشورات ضفاف)، والجزائريان سعيد خطيبي (حطب سراييفو ـ منشورات الاختلاف)، وعبد الوهاب عيساوي (الديوان الإسبرطي ـ دار ميم للنشر). الروايات الصادرة باللغة العربية بين حزيران (يونيو) 2018 وتموز (يوليو) 2019 وفق ما تنصّ عليه شروط الجائزة، «تكاد تنشغل جميعاً بوطأة التاريخ بماضيه وحاضره، لكنها لا تستعيد هذا التاريخ أو الواقع المعاصر تطابقاً، وإنما تواجهه بحدّته لتثير عند القارئ الأسئلة عن مصير الإنسان العربي» وفق ما قال رئيس لجنة التحكيم الناقد العراقي محسن الموسوي لدى الإعلان عن القائمة القصيرة. وعلى اختلاف وتنوّع أساليبها السردية وفضاءاتها وموضوعاتها، فإنّ شؤون الإنسان العربي، في ماضيه وحاضره، تشكّل انشغالات هذه الأعمال بدءاً من عراق عالية ممدوح المعجون بالألم والوجع والحروب والأحلام المغتالة وصولاً إلى لبنان جبور الدويهي منذ فتنة ١٨٦٠ حتى استعراضات أبطال الحرب الأهلية.
رحلة البحث عن العقل


قبل الخوض في أحداث «فردقان» (دار الشروق) للكاتب المصري يوسف زيدان (1958)، لا بدّ من التوقّف عند عنوان الرواية باعتباره عتبة مهمّة لدخول النص. اختار زيدان قلعة فردقان التي تضمّ سجناً تاريخياً في إيران عنواناً لروايته، لأنّ ابن سينا سُجن في القلعة الفارسية وكتب فيها: «حي بن يقظان»، «كتاب الهداية»، «رسالة في القولنج». حكاية «فردقان» يطول شرحها لأن القارئ عندما ينهيها، يتبادر إلى ذهنه سؤال واحد: هل عليه الاستمتاع بالرواية كونها خيالية، أم أنه سيعيد حساباته، عندما يتذكر أن أحداثها بُنيت أساساً لرصد سيرة شخصية تاريخية خالفت عصرها تماماً كشخصية ابن سينا؟ في تصريح لـ «دار الشروق» المصرية، قال زيدان إن الرواية «تعيد بناء حياة ابن سينا، والعصر الذي عاشه، والحكام الذين عاصرهم (...) كما فترة اعتقاله داخل قلعة فردقان وكيف أثرت على شخصيته وتفاصيل حياته، وكذلك كتاباته». إذن هل نصدّق ما كتبه في روايته عن ابن سينا الذي ينافي ما قرأناه وما نعرفه عن حياته، أم نصدق ما ذكره في الحوار؟!
اختار زيدان الكتابة عن حياة ابن سينا الشخصية والعلمية، لكنه لم ينتبه إلى جانب مهمّ هو ضرورة الحفاظ على الحقائق التاريخية. نلاحظ مثلاً أنه صوّر ابن سينا كزير نساء من خلال عشيقاته الثلاث: روان، ماهيتاب وسندس. لكن هل خلَت حياة ابن سينا من كل شيء ليصبّ زيدان جلّ اهتمامه على نسائه إن وُجدن فعلاً! فلو افترضنا أنها رواية ويجوز للروائي ما لا يجوز للمؤرّخ والباحث، لكنّه ذكر العكس في الحوار مع «دار الشروق»، إذ قال إنّ «فردقان» تقدّم صورة كاملة عن حياة الشيخ الرئيس ابن سينا. بيد أننا كقراء لاحظنا أنه ركز على مشاعر ابن سينا الداخلية وحريمه رغم أنه رصد سيرته بدءاً من اعتقاله في قلعة فردقان لأسباب سياسية. بعدها عاد بنا عن طريق «الفلاش باك» إلى طفولته في بخارى، وبدايات نبوغه في الطب، ثم سفره وما تخلّله من أحداث وعلاقاته بالأمراء وحبّه للفقراء. تطرّق أيضاً إلى السياسة، وما عاشته الأمة الإسلامية نتيجة ضعف الدولة العباسية وآثارها على ابن سينا على شتى الأصعدة. تناول حياته في الري، وهمذان وأصفهان، ونشأته في أسرة مكونة من أب أفغاني وأم خوارزمية، وحياته في وسط آسيا وصولاً إلى استقراره في المنطقة الفارسية حتى مماته، كما أبرز علاقة المثقف والسلطة. حاول زيدان من خلال الراوي العليم أو ما سماه جيرار جينيت التبئير أن ينقلَ لنا أفكاره هو، في تدخّل غير مبرّر، في حين أن الكاتب يجب أن يكون مصوّراً للأحداث لا مشاركاً فيها. تشعر عندما تقرأ «فردقان» أن زيدان بشحمه ولحمه هو الذي يتحدث، ويعبّر عن أفكاره وآرائه في العديد المواضيع والمواقع. اللافت أنه يصف الأشياء بدقة متناهية، يشعرك لوهلة أنه عاش ذلك الزمان، خاصة عندما يصف أنواع العطارة والتوابل والأعشاب التي كانت تُستخدم في الطب آنذاك. يتجلّى ذلك من خلال سعة اطّلاعه وتمكّنه الواضح من الفلسفة اليونانية والعربية القديمة. وهذا ما يدفعنا إلى القول بأنّ زيدان باحث كبير لا يُشقّ له غبار أكثر منه روائياً. كما أن اللغة التي كتب بها روايته تشي بالكثير من الدهشة والسحر. في رواية «فردقان»، سؤال محوريّ هو: أما حان الوقت لإعادة قراءة تاريخنا قراءة جديدة قادرة على بناء مصالحة بيننا وبين «العقلاني» فيه؟ ذلك العقلاني الذي عاش ضحية التكفير والتهميش والحجر لقرون ولا يزال. «فردقان» هي رحلة البحث عن «العقل» في تاريخ هو عبارة عن احتفال بـ«اللاعقل» وبـ«الخرافة»، وتلك غاية الرواية، أي طغيان سلطة الجهل وتقديس الجهلة بدل إعطاء العلماء والحكماء مكانتهم الحقيقية: «لا يجوز الاحتجاج بالنقل لدحض الحجج العقلية، لأن العقل مقدّم بالضرورة على النقل، كونه الأعمّ في النوع الإنساني وكونه مناط التكليف وشرطه الأول».
* «فردقان» (دار الشروق) للكاتب المصري يوسف زيدان

فانتازيا فوق الخراب


كما لو أننا فوق خشبة مسرح ببروفات لا نهائية، فيما تتوافد الشخصيات إلى المنصّة، تبعاً لمخيلة الراوي في تحديد مصائرها. لكن خليل الرز (1956) في روايته الجديدة «الحي الروسي» (ضفاف/ الاختلاف) يضيف هذه المرّة، بالمقارنة مع رواياته السابقة، جرعة عالية من الفانتازيا للملمة الخيوط المتشابكة، بما يشبه ألعاب السيرك. وإذا بالبلاد التي تعيش حرباً طاحنة منذ سنوات تُختزل جغرافياً بحديقة حيوان، وسطح غرفة داخل الحديقة يقطنها مترجم عن الروسية وصديقته، يراقبان ما يحدث في «الحي الروسي» وسط دمشق، والعلاقات الملتبسة بين حيوانات الحديقة. لن نستغرب إذاً، أن تحتلّ زرافة صامتة وكلبة وحيوانات أخرى مركزية السرد، على خلفية أصوات القذائف وراجمات الصواريخ المتبادلة بين أسطح الحي الروسي وغوطة دمشق. كما سيتكشّف الصراع عن عنف متأجج بين بطل شعبي يُدعى عصام، وزعيم مافيا روسي استغل فوضى الحرب، ينتهي بقتل الأول في الغوطة على أيدي التكفيريين بتهم مخالفة الشرع الإسلامي. وسنتتبع مصير الزرافة العمياء في زحفها نحو ساحة الأمويين لتُقتل هناك بقذيفة أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون. هكذا يؤثث خليل الرز أمكنته وفقاً لشطحات الراوي وهذيانه غير عابئ بواقعية هذه الأمكنة، أو أنه يمزجها في فضاء واحد. إذ لا فرق بين دمشق وموسكو والرقة لجهة تقاطع الوقائع. يصعب تلخيص سرديات صاحب «وسواس الهواء» حكائياً، إذ يعوّل في المقام الأول على المعمار السردي واللامتوقع بأقصى حالات اللعب والمغامرة، في مشروع روائي مضاد وعسير الهضم بالنسبة إلى ذائقة المتلقي الضجر: «عملي يحتاج إلى قارئ طويل البال، وسيكون هذا القارئ سيّئ الحظ بالتأكيد، إذا لم يكن قد قرأ تاريخ الرواية العالمية». ربما علينا هنا أن نستعير عنوان إحدى رواياته وهو «سلمون إرلندي» في تفسير هجرته المعاكسة للتيار، ورهانه المتمهل على تأصيل رواية عربية مفارقة تنتمي إلى ميراث الرواية العالمية أكثر من انغلاقها على ما هو محلّي وسقيم ومستقر. ليس عبثاً إذاً، أن يستدعي اسم تورغنيف في نهاية الرواية، أو أن يبني حوارات مسرحية بنبرة تشيخوفية. على الأرجح، يأتي هذا الاستدعاء كنوع من التحية إلى الأدب الروسي كميراث سردي عظيم، من دون أن يتخلّى عن تجريبيته وخلائطه المحليّة لجهة اللهجة والمرجعيات البيئية وتناوب الخوف والصمت والعبث فوق خرائط ممزّقة. نظرة شاقولية لخلخلة اضطراب القاع، تقع على مستوى طول عنق الزرافة، وسطح غرفة المترجم، وارتفاع شاشة التلفزيون التي كانت تبثّ وقائع الحرب، بوصفها علامات دلالية في تلخيص المشهد العمومي للبلاد «كأن قوةً طاغية عمياء، قد قرّرت أخيراً، أن تدفع الحي الروسي في ظهره دفعاً في الوحول والدم والظلام» يقول. هكذا يحطّم صاحب «سولاويسي» الأنساق السردية تبعاً لأحوال الاحتضار التي انتهت إليها شخصياته القلقة والخائفة والمضطربة بأسمائها الغرائبية، ثم ستعلو نبرة السخرية أكثر إزاء افتتاحيات جريدة الحائط في حديقة الحيوان بتوقيع الروائي المغمور أركادي كوزميتش.
* «الحي الروسي» (ضفاف/ الاختلاف) للكاتب السوري خليل الرز

رواية ترتقي بالتاريخ


شكّلت كتابة الرواية عموماً، والرواية التاريخية خصوصاً، تحدياً كبيراً بالنسبة إلى الكاتب الذي يحاول دوماً أن يخرج عن المألوف بتقديم نصّ متميز موضوعاً وشكلاً. فالمطّلع على أغلب الروايات التاريخية يلحظ أنها شبه مكررة وتقليدية اتّخذت من تقنية التناص مقاربة للبناء الفني للعمل.
دعا الناقد الأميركي فنسنت بي. ليتش إلى التوقف عن تدريس الأدب والشروع في دراسة النصوص.
لعل «الديوان الإسبرطي» للروائي الجزائري عبد الوهاب عيساوي (1985) الصادرة عن «دار ميم» الجزائرية والتي تنافس ضمن القائمة القصيرة للجائزة «بوكر» هذا العام، واحدة من الروايات القليلة التي تستدعي التوقف عندها قراءةً ودراسةً. كاتب النص لجأ إلى مقاربة أسلوبية جديدة عندما سخّر التاريخ بشكل جيد. إذ اعتمد على الحادثة التاريخية بتفاصيلها الحقيقية، مشيّداً من خلالها عوالم متوازية نفسية واجتماعية وإنسانية، ومستعيناً بخياله ومعتمداً أيضاً على المذكرات والسجلات. وهذا بحدّ ذاته يجعل من الرواية عملاً متفرّداً يرسي معايير مختلفة في مجال الرواية التاريخية والحفر فيها من دون الوقوع في فخ التقرير لمجرد الارتكاز إلى الوقائع المعروفة وترك التفاصيل.
عبد الوهاب عيساوي صاحب مشروع أكثر من كونه كاتباً. فالذي اطّلع على «الديوان الإسبرطي»، حتماً سيقف على اجتهاده وحرصه على تقديم نصّ غير تقليدي.
قسّم الكاتب روايته إلى خمسة فصول بخمسة شخوص. سنستمتع بكل شخصية وبصوتها الذي عبّرت من خلاله عن رأيها مع الكثير من المتعة والتشويق.
تدعونا الرواية أيضاً إلى معرفة الكثير من الحقائق التي لم يتم التطرق إليها بمثل هذا الشكل والبناء السردي. تتحدث كذلك عن جرائم فرنسا في الجزائر، كما تدعو القارئ إلى معرفة تفاصيل الوجود العثماني في الجزائر بصورة أخرى غير تلك التي نعرفها. وهذا جزء بسيط من الرسائل الظاهرة والمضمرة التي يمكن للقارئ أن يستشفّها من خلال قراءته المتأنية للعمل. فالرواية تستدعي أكثر من قراءة لاستشراف أشياء ومعلومات جديدة.
من خلال رواية «الديوان الإسبرطي»، نقرأ رواية مدهشة السرد والتفاصيل. نعيد من خلالها إحياء تفاصيل تاريخية تُعرض للمرة الأولى. إنّها كما قال عنها الكاتب والناقد العراقي محسن جاسم الموسوي: «رواية ترتقي بالتاريخ».
* «الديوان الإسبرطي» (دار ميم) للروائي الجزائري عبد الوهاب عيساوي

رواية الخروج من الحرب


تمكّن سعيد خطيبي (1984) في «حطب سراييفو» (ضفاف ـ الاختلاف) التي تهتمّ بأدق التّفاصيل، من صَهر المتناقضات الاجتماعية والنفسية والإنسانية، ليؤكّد من خلال شخصياتها ورمزية «الحطب» بأنّ الرواية قادرة على الحفر عميقاً في العديد من الثيمات، مثل المعاناة، والاغتراب، والتشتّت وتأثير الحروب والصراعات على النفس البشرية. سلّط خطيبي الضوء على مرحلة تاريخية مهمّة وحساسة في الجزائر وفي البوسنة والهرسك. نقل بدقة صور الأنا والآخر، وجمع بين ثقافة الشرق والغرب، التي وإن اختلفت في الكثير من الجزئيات، فإنّها تشترك في لحظة الحرب. تسرد «حطب سراييفو » سيرة بلدَين على نفس خط التواصل الإنساني. من يقرأ ما بين السطور، يمكنه إسقاط أحداثها على الراهن العربي، فالرصاص توقف، لكن الصراع البشري مستمرّ: «الموت صار طقساً تعودنا عليه» كما كتب. استطاع خطيبي بقصة الحب التي تجمع البطلَين سليم وإيفانا، أن يجسّر الهوة التي تجعلنا دائماً في خوف من الآخر الذي لا نعرفه، ولكنه طبعاً يتقاطع معنا في الكثير من الأمور. تسعى «حطب سراييفو» إلى أنسنة الحياة رغم الصراعات والاضطرابات، واستطاع سعيد خطيبي أن يتنقل بذكاء وسلالة بين دول البلقان والجزائر ومحاكاة واقع المنطقتين من دون تشتيت للنص السردي. بدأها بسليم الذي اشتغل صحافياً في العشرية السوداء، خلال النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، وغطى الفظائع التي راح ضحيتها الأبرياء في الجزائر. بعدها، أغلقت الجريدة التي يعمل فيها، ليجد نفسه من دون عمل، ما اضطره إلى السفر إلى سلوفينيا هرباً من الموت بعد تلقيه دعوة من عمه الذي وصل هناك على غرار مئات العمال الجزائريين الذي ارتحلوا إلى يوغوسلافيا سابقاً في السبعينيات. هجر حبيبته مليكة المنبوذة من مجتمع رفضها رغم أنها هي الأخرى ضحية، تاركاً وراءه الكثير من الذكريات المؤلمة.
أما إيفانا فهي فتاة بوسنية، حلمها أن تصبح مسرحية. في ظلّ الجو المكهرب الذي تعيشه في البيت، ومعايشتها الصراع الدامي لحرب البوسنة والهرسك التي لم تُبقِ لا على الأخضر ولا اليابس، قرّرت السفر إلى سلوفينيا بحثاً عن أرض تحتضن أحلامها. فصول الرواية مسرودة بأسلوب سلس وبطريقة تناوبية بين سليم الهارب من الجزائر الذي كان يئنّ في صراع الدم والقتل بحثاً عن وطن ينعم فيه بالحرية والأمان، وإيفانا التي هربت هي الأخرى من حرب البوسنة والهرسك. جمعهما الحب واليتم، يتم الوطن والأب، والكثير من الألم، فكلاهما وجد ما يشبه مأساته في الآخر. روى خطيبي كذلك حكاية عم سليم، السي أحمد، الذي تنكر لماضيه، متناسياً أنه مجاهد في حرب التحرير بخلاف أخيه والد سليم، السي عمار، الذي أصرّ على البقاء في الجزائر. جمع الحب بين إيفانا وسليم في لوبليانا، لكن جريمة قتل ستقع وتفرّقهما، فهي عادت إلى وطنها بعد خروجها من السجن، لتحاول صنع مسار جديد لها في مدينتها، بينما اكتشف سليم أنه ابن غير شرعي، ما شكل لديه أزمة نفسية حادة جعلته يعود إلى الجزائر ليعيد ترميم نفسه، باحثاً عن هويته الأصلية وعن والديه. أعادت «حطب سراييفو» تأثيث التاريخ، فوحده الإنسان فيها استطاع أن يرسم ويوحّد ذلك التاريخ من خلال آماله، وهواجسه وطموحاته. إنها رواية الآخر الذي نتشارك معه التاريخ ذاته والأوجاع ذاتها فقط، لكنها ممهورة بقلم عربي، وهذا ما يميزها. في تصريح له، قال خطيبي عن روايته: «كنت دائماً مسكوناً بالحرب، التي عشتها صغيراً في الجزائر، وفقدت فيها بعضاً من أهلي ومعارفي، ولكن ليس الاهتمام بالحرب في بشاعتها أو ماذا دار فيها، بل أهتم بحيوات الناس العاديين في الحرب، كيف يعيشون وكيف يفكّرون، حيوات الضحايا المفترضين للحرب، الذين نجوا منها. في المقابل، أشعر بحزن دفين كوننا تأخّرنا في الكتابة وفي الوصول إلى هذه المنطقة (يقصد البلقان)، المكتظّة بتاريخ متفجّر لا يختلف عن تاريخنا. بالتقدّم في الكتابة، كنت أتوقّف، كعداء يسترجع أنفاسه، أحياناً وأنا تحت مفاجأة التشابهات الكبيرة في التّاريخ السوسيو – ثقافي بين البوسنة والهرسك والجزائر».
* «حطب سراييفو» (ضفاف ـ الاختلاف) للروائي الجزائري سعيد خطيبي

تجريب في حي «التانكي»


تنتمي «التانكي» (منشورات المتوسط) للروائية العراقية عالية ممدوح (1944) إلى النصوص التجريبية الحديثة التي تفرض على القارئ الاعتيادي تحدّياً كبيراً يتمثل في الحاجة إلى فهم النص بشكل عميق وفك شيفراته، بخاصة أنه يختلف عن السرد التراتبي المتعارف عليه في أغلب الروايات العربية وحتى العالمية. بالإضافة إلى ذلك، يتميّز العمل بتفكك النص وغياب الثيمة الرئيسة أو الأحداث المتسلسلة بشكل منطقي. لعل الكاتبة أرادت إيصال تلك الرسالة للقارئ من خلال رمزية «المكعب» المشار إليه في عديد المناسبات والحوارات خلال الرواية، والذي يمثل شكلاً هندسياً بستة أوجه متناظرة في الشكل، لكن لكل واحد منه استقلاليته التامة.
مع ذلك، تقدم «التانكي» تجربة إنسانية وتذكرة سفر إلى مكان لم نكن نعرف عنه سوى الأشياء العامة التي يعرفها من لم يعش في العراق، فما بالك الحديث عن ماضي أمكنة تركت أثرها في ذاكرة عفاف بطلة الرواية؟ رأت العراق بعينيها حين عادت إلى بلدها بعد أربعة عقود من الزمن، لتزور الأمكنة التي مرّت عليها الكثير من الحروب والأوجاع. علماً أنّ العنوان «التانكي» (كلمة مستعارة من اللغة الإنكليزية وتعني خزان المياه) هو شارع «مخيالي» في العراق، وبالتحديد في العاصمة بغداد، كانت تسكنه النخبة آنذاك.
تندرج الرواية ضمن ما يسمى بأدب النوستالجيا (الحنين إلى الماضي) أو حتى أدب المنفى، لكنها مختلفة لأنها رواية تجريبية استخدمت فيها الكاتبة أسلوب البولوفونيك بدءاً بالرسائل التي تبعث إلى الطبيب وصولاً إلى عفاف وحديثها عن الغربة. استطاعت عالية ممدوح أن تضعنا في صورة ما حدث ويحدث في العراق من دون محاولة تزييف أو تجميل للحقائق. تحدثت أيضاً عن الاحتلال الأميركي، والمنفى، والطائفية والعراق المتعدد والمتنور، والحروب.
تشعر من خلال عملها وهي المغتربة منذ أكثر من ثلاثة عقود، أن العراق حاضر بقوة في مخيلتها ووجدانها، هذا ما انعكس على كتابتها. إنه الوجع الذي يسافر مع صاحبه ولا يمكن أن يفارقه. وحدها الكتابة تخفف عنه وطأة الألم.
يظهر جلياً من خلال رواية «التانكي» علاقة عالية ممدوح بمدينتها بغداد، وأيضاً مدى حرصها الكبير على نصها الذي أخذ منها أربع سنوات كي يخرج للنور.
ففي حوار لها مع موقع جائزة «بوكر»، قالت: «شرعت في كتابة «التانكي» نهاية عام 2013، وكل رواية كتبتها كان الإلهام يحضر من مدينتي الأولى، بغداد، ومن الحي الذي يقع فيه التانكي. أشياء كثيرة لم تستطع ذاكرتي القرائية رصدها، فليس كل ما نقرأه ويؤثر فينا يمكن أن نكتب عنه».
الرواية عبارة عن لغز متعب، لن يكتمل إلا بقراءة الرواية حتى النهاية وفهمها، كما تقول ممدوح: «الروايات كائنات بشرية علينا أن نفهمها ونأخذها كما هي».
يقول ميشال فوكو: «لتحلم، لا يجب أن تغلق عينيك بل يجب أن تقرأ». وهذه الرواية جعلتنا نحلم بعراق أجمل وأكثر تقدّماً كما أرادته ممدوح.
* «التانكي» (منشورات المتوسط) للروائية العراقية عالية ممدوح

على فالق الزلازل


تبدأ الإثارة في رواية جبور الدويهي (1949) «ملك الهند» (دار الساقي)، مع غلافها الذي يُبرز لوحة «عازف الكمان الأزرق» للرسام الفرنسي شاغال. إذ عادة ما تحتوي لوحات الرسامين الكبار من فيلاسكيز إلى رمبرانت وبيكاسو ورامبو أو شاغال نفسه على كتاب ما، في ما يشبه التأويل البورخيسي لصيرورة العالم إلى مكتبة لا تنتهي أو إلى جملة مالارميه العجيبة: «كل شيء في هذا العالم يوجد ليصير كتاباً». أو بحسب تأويل ستاروبنسكي، فإنّ وجود الكتاب قد يقوّي «علاقتنا النقدية» بالعمل الفني. في الاتّجاه المعاكس، لم يعد الروائيون الغربيون يستخدمون اللوحات الفنية في أعمالهم، مثل زولا وفرجينيا وولف ودانوزيو وكونديرا في استخدامات تقع في صلب الإبداع الروائي: تضيء الصورة النص بعدما كانت تقوم مقامَه لقرون عديدة. وجود لوحة في رواية الدويهي، وإن كان النص لا يرتكز إليها بشكل مركزي، هي «ضربة معلم» في دلالتها على الحنين الذي يقود بطل الرواية زكريا مبارك نحو حتفه في جريمة قتل في ظروف غامضة، حيث يصف الدويهي لحظة مقتله في نهاية الفصل الأول بلغة مطعّمة بالشعر: «قصد كرم المحمودية بعد الظهر في مسيرة نصف ساعة على الأقدام. يأتي لينظر إلى الأفق البعيد وإلى صفحات حياته المتوارية خلف البحر. وفي يوم من أيام الخريف الرائعة، بدأت فيه أوراق الشجر تتلون بين الصفرة و الاحمرار، رأته جماعة من المتنزهين من بعيد جالساً مرتدياً بذلة الكتان كمن يستريح وغفا. اقتربوا منه فرأوا بقعة الدم الكبيرة تلوّث بياض سترته. طلقة رصاصة واحدة لجهة القلب قتلته». سنكتشف مباشرة أن جريمة القتل هذه ليست مجانية، إذ على عادة الدويهي في «طبع في بيروت» أو «مطر حزيران»، سيتّخذ السرد إطاره المُحكم من حدث تاريخي ما مثل تاريخ المطبعة في بيروت أو حادثة إطلاق النار في كنيسة مزيارة وصولاً إلى مقتل البطل في «ملك الهند» من أجل تفكيك التاريخ الشخصي «الصغير» للأبطال، من قطعة الأرض التي يتنازعها أبناء العم في ما بينهم كما يتنازعونها مع بعض المزارعين الدروز، إلى الجدة التي تهاجر نحو العالم الجديد وما تكتنفه تلك الهجرة من قسوة وأعمال تُكرَه عليها الجدة من أجل تحصيل ثروة العائلة... دورة العنف تلك التي لن توفر أجيالاً عديدة كابنة البطل التي ستقتل في مدرسة أميركية على يد متطرّف مهووس. مع هذا التفكيك، نجد أنفسنا أمام تفكيك أكبر للوحة تاريخ بلادنا الواقعة على فالق الزلازل، فتحضر لحظات فتنة ١٨٦٠ أثناء التحقيق في الجريمة، إلى استعراضات أبطال الحرب الأهلية اللبنانية وتوقهم إلى المال وسعيهم ‏لسلب زكريا مبارك للوحة «عازف الكمان الأزرق» الأصلية التي انتزعها من صديقته الباريسية. بطل «ملك الهند» زكريا كما إيليا، بطل «مطر حزيران» رائعة الدويهي الأخرى يقبعان في ذلك الذهاب والإياب المستمر الذي يفرضه الحنين. ولئن «تلفّت (إيليا) حوله قبل أن يترك كيس الجبنة وأقراص الكبة على المقعد الذي كان جالساً عليه»، تلك الأغراض التي وضبتها أمه ويتخلص منها تباعاً في المطار كرمز للقطيعة مع الحنين، فإن زكريا هنا، الذي يشبه إيليا كثيراً في تردّده في علاقاته النسائية، سيدفعه الحنين بعد حتف ابنته في المهجر إلى ترك الماضي بأكمله باستثناء لوحة «عازف الكمان الأزرق» للمضي قدماً نحو بقعة دمه.
* «ملك الهند» (دار الساقي) للروائي اللبناني جبور الدويهي