«أعلن انتمائي لقصيدتي السياب ــ المصري بالجوهر، والروح، والتوق لإنسانية مطلقة التعبير» تحدثنا الفنانة أميمة الخليل عن المصادفة التي وضعت قصيدة «أنشودة المطر» (1960) بين يديها، بينما كان المؤلف الموسيقي اللبناني عبد الله المصري قد اختارها لعملٍ موسيقي جديدٍ يجمعه بها.
اتفق الطرفان على هذه القصيدة عن بعد، ولم يبق للمصري إلا أن يعمل على التأليف الموسيقي لمدة ثلاثة أشهر. خلال هذه الفترة، أضاف إلى صوت أميمة، دور البيانو (رامي خليفة) المسيطر على معظم أسطوانتها الجديدة «مطر» (مؤسسة «نغم»). ولا بد من الإشارة هنا إلى أنّ العمل نفذته الأوركسترا الفيلهارمونية القطرية في حزيران (يونيو) 2013 بقيادة ألاستير ويليس على مسرح دار الأوبرا «كتارا» قبل أن يُسجل في موسكو مع الأوركسترا السيمفونية «كابيلا روسيا» بقيادة فاليري بوليانسكي. الأخير ارتبط اسمه بالمؤلف الروسي سرغي رخمانينوف، حيث نشعر بوجود عبير من موسيقاه في هذا العمل. «عيناك غابتا نخيلٍ أو شرفتانِ راحَ ينأى عنهُما القمر...» هكذا يختار عبد الله المصري أن يكون صوت أميمة أول آلة موسيقية لقراءته السمفونية لقصيدة بدر شاكر السياب (1926ــ 1964)، ليُظهر بعد حين صوتاً جديداً للخليل. صوت «لا منتم»، لا يقلد التقنية الغربية (الأوبرا) ولا يمت للطرب الشرقي بصلة، إنما يلاطف بـ «آهه» المستمع بما يشبه آلة نفخ خشبية كالـ«اوبوا»...
العمل الذي توقّعه بعد غد الجمعة في «فيرجن ميغاستور»، هو «قصيد سمفوني» لـ«سوبرانو شرقي» وبيانو وأوركسترا، من ثلاثة أجزاء (وليس حركات)، يترجم عنصر «الأسطورة» الذي ميّز «أنشودة المطر» بما لا يمكن أن يكون أكثر صلابة وإشباعاً من حيث التصوير الموسيقي. هي 36 دقيقة لا أكثر، تخطى فيها المؤلف «راحة» المستمع العربي بشكلٍ يبقيه في النطاق المجاور (la zone de proximité)، وخرجت صديقة «العصفور» من الصورة الملتزمة التي تميزت بها لتذهب إلى التزامٍ من نوعٍ آخر. التزام أكثر جرأة من أن يساوم على أصالة في تقديم عمل حديث بالمعنى النسبي للحداثة الموسيقية والشعرية.
نعم، سيفاجأ جمهورها. هذا ليس عملاً حيادياً، ولا جدال على أنّ صاحبة «نامي يا زغيري» رسمت منذ انطلاقها الأول مع فرقة «الميادين» حتى ألبومها «زمن» (2013) خطاً متصاعداً وصولاً إلى هذا العمل الأنضج، ولن يسعها بعده أن تعود أدراجها. هذا النضوج العفوي والتدريجي، يبلغه كل فنان وضع بصمة معاصرة وأحدث فرقاً بتحليقه خارج السرب، أكان شاعراً أم موسيقياً أم فناناً تشكيلياً. هذه هي الثورة الفنية، أو ربما الثورة بشكلٍ عام التي تنطلق من الداخل، تتجذّر في هويتها وتتشرب القوانين لتنفلت منها إلى حرية أصيلة. حرية تسجل حقبة موسيقية حديثة (1890ــ1935) اختارها المصري ليشعل بها ثورته على سرب الموسيقى الجدية التي لا تزال تلملم فتات العصرين الكلاسيكي والرومنطيقي الغربيين.
ما يتسم به «مطر» (وهو ما يميز كل عمل صادق في بنيته) أنّ العنصر الجمالي يتدفق بعد كل استماع وليس العكس (على غرار بعض الأعمال الجدية السائدة). في كل مرة، نكتشف صدفةً موسيقيةً تمسنا بعصريتها وفوضويتها. نكاد نعتقد بأنه عمل مرتجل، يأخذ فيه الغناء أنفاسه من البيانو (رامي خليفة) بشكل شبه دائم، ويتجاذبان مع الاوركسترا ثورةً ثم حلماً ثم سراباً. أما الذي يشدنا منذ الاستماع الأول، فهو في الفقرة الثانية من الجزء الأول. يبدأ البيانو بجمل من مقام الحجاز، يطغى عليها مزاج الـ scherzo اللعوب، السريع والمضحك الذي يرافق نص البيانو في معظم الوقت بدقة أداء خليفة التي يُشهد لها. تتشابك معه الآلات تدريجياً وصولاً إلى نشوة موسيقية، تمهد بعدها لصوت أميمة الذي لطالما حافظ على هدوئه النسبي طوال هذا العمل: «وكركرَ الأطفالُ في عرائش الكروم، ودغدغت صمتَ العصافيرِ على الشجر، أنشودةُ المطر» لينتهي الجزء بما يشبه تكات الساعة (أكثر من صوت المطر) يصدرها «نقر» الكمنجات وآلات النفخ الخشبية...
تختم أميمة في نهاية الجزء الثالث: «أصيح بالخليج...يا خليج يا واهبَ اللؤلؤ والمحارِ والردى... فيرجع الصدى كأنّهُ النشيج». بعدها، يصوّر الكورال الروسي صدًى بوليفونياً لصياح الشاعر العراقي، لتهدأ بعده الموسيقى وتعود لترضي أذن المستمع الشرقي بآلة الـtemple block في إيقاع «البلدي» مرافقةً البيانو. تختتم الآلتان سوياً على ما يشبه مقام الحجاز. يعود البيانو لافظاً أنفاسه الأخيرة في «كودا» (نهاية أخرى) صغيرة، ربما تعطي أملاً يلي تراجيديا قد سيطرت منذ البداية. تراجيديا متقلبة تآمرا فيها الشاعر العراقي والموسيقي اللبناني في «أنشودة المطر».

توقيع أسطوانة «مطر»: 17:00 مساء الجمعة 21 آذار (مارس) ــ «فيرجن ميغاستور» (وسط بيروت). يلي التوقيع أداء أميمة لفقرة من العمل بمرافقة رامي خليفة على البيانو





التأليف

في عملها الجديد، تخطت الفنانة أميمة الخليل نفسها أكان من ناحية الأداء أم اختيار المدرسة الموسيقية للتأليف. ذلك يدلّ على مصداقية مؤلف «موسيقى حديثة» اختار عملاً شعرياً حديثاً يخاوي بكسر أوزانه، كسر الإيقاع الموسيقي الذي ألبسه إياه، لا بل كَسر الكثير من قوانين التأليف، وهو ما مورس في بداية العصر الحديث (أواخر القرن التاسع عشر). الموسيقى هنا لاطونالية، أي أنّها لا تنتمي إلى مقام غربي ثابت، ما يوازي انفلات الشاعر من وحدة القافية، ولا تنتقي من المقامات الشرقية سوى «الحجاز» الذي لطالما استخدمه رواد الموسيقى العالمية في بدايات القرن العشرين عند اقترابهم من الشرق.