«اليوم أريد أن تصمتَ الريح. كأنّ كمامة أطبقَت على فَم العالم» (سركون بولص)

بغداد | تحققت نبوءة الشاعر، صمتت الريح، وأطبقت اليوم كمامة كبيرة على العالم كله، وتركته تحت الوطأة الثقيلة لمفاجأة فيروس كورونا الذي فاجأ البشريّة وأوقف عجلة الحياة في كلّ مكان. لحظة الصّمت أطبقت بغتة، تاركة صدى الرعب يتردد من أقصى المعمورة إلى أقصاها، ليهرع الناس إلى مجمعات التسوق والصيدليات وجدران البيوت. إلى الرعب، صديق الإنسان القديم، من لحظة الكهوف والموت الأوّل، حتّى صور الجثث المكدسة من ضحايا الفيروس الذي دحض جبروت الإنسان وهدم أبراجه العالية.
لوحة بريشة سيروان باران

وبين حمى تطويق الجائحة وتأخير تقدمها، وسباق المعسكرات المتناحرة لاكتشاف لقاح أو علاج ناجع، يركن الإنسان الهش إلى علاجه الشخصيّ، ذاك الذي ينبع دائماً من الداخل، من القوّة الغامضة التي ترمم روحه المرتجفة وتخترع لهُ أسباب الأمل.
ومثلما كان الأسلاف يُعالجون مخاوفهم بالخطوط الراعشة على جدران الكهوف، ويدفعون أشباحهم بقوّة اللون وسحر تعبيره، تاركين للأجيال اللاحقة شهادات حرّة عن لحظات الحقيقة الغابرة، فقد ظلّ إنسان القرن الإلكتروني أميناً على العادة، يحرر اللحظة بالرسم، مُرسلاً للمستقبل تلويحة النجاة. هنا نتصفّح ثلاث لوحات لفنانين عراقيين من أجيال مختلفة قاربوا محنة الكوكب الملحة باقتراحاتهم الفاحصة.
وجوه متلاشية غائمة، تغطّي نصفها الكمامات، ترقب بحذر ووجوم قدر البشريّة القاتم، الضعف الإنساني يطلُ كشبح غير مرئي بين التفاصيل، ليس للوجوه ملامح واضحة، وكذلك هو الخوف، واحد ومتشابه ومتكرر ومن دون ملامح، هكذا بدت لوحة الفنان سيروان باران (56 عاماً) التي عبّرت عن حدث الساعة، وقد نشرها في مواقع التواصل. الأجساد يقترب بعضها من بعض محاولة تبديد انكسارها الفردي بالقوة المعنوية للجموع، أو ربما هي إشارة للحاجة الإنسانية إلى التواصل أثناء المآسي بعدما فرّق الوباء بين الناس وحكمهم بالعزلة. ثمة قاتل بالضرورة، مجهول كالعادة، لكنه هذه المرّة لن يكون عدوك، بل أحد أفراد أُسرتك أو أصدقائك، أو محض عابر لم تجمع بينكما سابقاً ضغينة أو ذكرى.
يسجل الفنان حامد سعيد (44 عاماً) محنة الإنسان أمام المرض، مُستخدماً في لوحته أدوات ماديّة كوسيلة للأداء الفني إلى جانب اللون: الورق المقوى الأسمر، ورق الدفتر المدرسيّ، أرضية بيضاء. يترك سعيد أدواته تتفاعل لتصنع رؤيتها لما يعيشه كوكب الأرض والإنسان من تداعيات الوباء القاتل. يرى أن ظاهرة الفيروس تختبر ثقافة الإنسان أكثر من جسده. لذلك يُشير إلى ورقة الكتابة دلالة على الحمولة الثقافيّة والوعي البشري ويستعملها ككناية لما يستخدمه البشر من حماية مضادة (الكمامة) ليدرأ عن نفسه الخطر. هذه الورقة حملت شيئاً يسيراً من الكتابة والعلامات في إشارة خافتة لحكاية الحياة والإنسان على الأرض، يختزلها الفنان بسطرين غامضين كأنهما الوهم أو السراب، هناك أيضاً رقمان رياضيان على اليمين، هل هما أيام الحجر الصحي أم فترة حضانة الفيروس؟
لوحة صفاء سالم اسكندر

صغر حجم الكمامة «المثقفة» لا يوحي بصغر حجم الإنسان في لحظة الحقيقة إزاء المجهول فحسب، بل حجم القيمة الثقافيّة والعلميّة المتبجّحة التي اكتشف العالم فجأة ضآلتها. الكوكب المريض باللون البنيّ بدا هو الآخر هشاً ومرتبكاً أمام المواجهة.
يحاول الفنان صفاء سالم إسكندر ( 30 عاماً) تعرية اللحظة الخاصّة بكورونا في تجريد متقشف للذعر البشري وهو يختبئ خلف نافذة البيت مطلاً على العالم من سجنه الاختياري. الإنسان يسجن نفسه بإرادته هذه المرّة، عقوبة عادلة على جرائمه بحق الكوكب والطبيعة، لا بد من جزاء (متأخر؟) على الحروب والتلوث وتجريف الأشجار وقتل الحيوانات الجائر الذي تسبب فيه الكائن المتجبر... كشف الحساب يأتي بغتة، ولذلك تحضر في لوحة صفاء عناصر الطبيعة التي توحي بهذا الإحساس، النبات (الوردة في أصيص) والحيوان (الخفاش) فارداً جناحيه القاتمين يُغطيان مساحة محدودة من اللوحة، لكنها كافية لتكثيف لحظة السواد والكآبة في الوجهين البشريين اللذين تواريا وراء رعبهما. تجريد الذعر يحاكي حضور الطبيعة، بأكثر من وجه، كل ما في المشهد يحتال على خفته، الحياة تأخذ منحى آخر.
لوحة حامد سعيد

ما يلفت أن اللوحات الثلاث على اختلاف أساليبها الفنيّة والتعبيرية، وتباين رساميها، فإن اللون البيج «الصحراوي» أو أحد تنويعاته كان حاضراً فيها جميعاً، ليكون علامة الجدب والعطش الروحي قبل المادي الذي عصف بالنفوس الشاحبة المنتظرة لقدرها.
ليس مجهولاً ما سيقوله الأحفاد عن جهود الحكومات بشأن تفشي الوباء، ولن يذكر أحد خطابات الزعماء المبشرة بالهلاك إلّا بالعار. سيظل على الدوام، في سماء الأيام الآتية، ما فعلته الكوادر الصحيّة لإنقاذ الأرواح، وما اخترعه الفنانون من علاجات بالألوان تستشرف الواقعة وتشهد عليها.