من منّا لا يزال حتى اليوم مبهوراً بنهاية فيلم «2001: أوديسة الفضاء» لستانلي كوبرك؟ لا شيء أكثر أيقونية أو أكثر غموضاً من تلك الدقائق الخمس عشرة الأخيرة، من نهاية رحلة الدكتور ديفيد بومان إلى الفضاء. إنها الخاتمة التي طرحت تساؤلات وأطلقت عدداً لا يحصى من النظريات، وأشعلت الكثير من النقاشات: ماذا حصل للشخصية؟ لكنّ بعضاً من اللغز كُشف أخيراً! منذ بضعة أشهر، بات لدينا على صفحات محركات البحث صوت كوبريك متحدثاً عن النهاية/ الحدث. هذا صحيح، إنّه ستانلي كوبريك شارحاً في مقابلة قديمة مأخوذة من فيلم وثائقي (١٩٨٠) من توقيع جونيتشي ياوي. لم يبصر الوثائقي النور، لكن بعد 40 عاماً، تسرّبت مقاطع منه على مواقع إلكترونية عدة. في مشهد من دقيقتين ونصف الدقيقة، نرى مخرج الوثائقي في محادثة هاتفية مع ستانلي كوبريك الذي يقدّم عبر السماعة تفسيره المقتضب للنهاية الغامضة.
«لقد حاولت تجنب القيام بذلك (تفسير النهاية) منذ ظهور الفيلم» يقول قبل أن يكمل «عندما تقول الأفكار فقط، فإنّها تبدو سخيفة، في حين أنك ستشعر بها أكثر عندما تأخذها في طريق الدراما، لكنني سأحاول. الفكرة أنّ ديفيد بومان الذي ذهب إلى الفضاء، أُخِذ من قبل كينونة تشبه الله. مخلوقات نقية الطاقة والذكاء، بلا شكل ولا هيئة. وضعته في ما يمكن اعتباره حديقة حيوانات بشرية لدراستها. لقد مرّت حياته أمامه منذ تلك اللحظة وهو في تلك الغرفة، من دون أي إحساس بالوقت. حدث كل هذا كما يظهر في الفيلم».
يشرح كوبريك أن هذه الكينونات الشبيهة بالله على حدّ تعبيره اختارت غرفة النوم الشهيرة (نسخة غير دقيقة مستوحاة من العمارة الفرنسية) لأنّها ظنت أن بومان يراها جميلة، بينما هو نفسه لم يكن متأكداً. يقارن كوبريك غرفة النوم في الفيلم بالمساحات التي تعيش فيها الحيوانات في حديقتها التي «اعتقدت أنها بيئته الطبيعية». ثم يضيف: «عندما انتهت منه، كما يحدث في العديد من أساطير ثقافات العالم، فإنّ بومان يتحول إلى نوع من الوجود الخارق ويعاد إلى الأرض، ويتحول إلى ما يشبه الرجل الخارق». ويختتم كوبريك، في إشارة إلى الجنين المضيء الذي يظهر أيضاً في النهاية «علينا أن نخمن فقط ماذا يحدث عندما يعود، على نمط الكثير من الأساطير، وهذا ما كنا نحاول فعله».
في الختام، صحيح أن لكوبريك نهايته وتفسيره، لكن يبقى «لنا» أن نحتفظ بتأويلاتنا على نهايته المفتوحة..
لنعد للبداية. من منا لا يعرف الفيلم؟ لم يشاهده أو حتى سمع به أو رأى مشاهد منه؟ «2001: أوديسة الفضاء» فيلم خيال علمي من إخراج كوبريك، وكتابة السيناريو تعود لكوبريك وآرثر سي كلارك. استُلهم جزء من الفيلم من قصة كلارك القصيرة «الحارس»، وكتب الفيلم بالتزامن مع كتابة كلارك رواية «2001: أوديسة الفضاء» التي صدرت بعد فترة وجيزة من إنتاج الفيلم. تحفة سينمائية لا تُنسى. مليئة بالرمزية والابتكار، عمل فني حقيقي. فيلم عن الإنسان، ومراحل تطوره، وموته، وعالم الفضاء والكون. رحلة لا مثيل لها من تأملات كوبريك عن الإنسانية والفضاء الخارجي.



يأتي الفيلم على شكل أربعة أقسام رئيسية:
القسم الأول (فجر البشرية) يحكي عن مجموعة من القردة تحاول بقوة إبعاد مجموعة أخرى عن حفرة مياه. تقترب المجموعة الثانية من نصب أسود غير مألوف. عندها يدرك أحد القردة أن بإمكانها الإفادة من العظام الموجودة كسلاح. هكذا يجبر الآخرين على الرحيل بعيداً عن الحفرة. وعندئذ يدخل الكون مرحلة جديدة من التطور.
القسم الثاني (القمر) ينتقل بالزمن إلى ما بعد ملايين السنين. وتحديداً إلى عام ١٩٩٩. يتم هذا الانتقال عبر قطعة العظم ذاتها. إذ يتم رميها إلى الفضاء وتتحول بصرياً إلى مركبة فضائية تقوم برحلة إلى القمر. الغاية من هذه الرحلة، تمكين العالم الأميركي د. هوارد (وليام سلفستر) من إجراء بحوث على النصب الأسود الغريب، الذي اكتشف وجوده على سطح القمر. يتبين لاحقاً أنه كان مدفوناً هناك منذ زمن بعيد، وله آثار غير محددة على معداتهم الفضائية.
القسم الثالث (مهمة في المشتري) يأخذ المركبة «ديسكوفري» إلى كوكب المشتري عام ٢٠٠١، وعلى متنها رائدا الفضاء ديف بومان (كير دوليا) والمساعد فرانك بول (غاري لوكوود)، وعدد من العلماء الذين جُمّدوا كي يعودوا إلى الحياة لدى وصولهم إالى الكوكب. يرافقهم في الرحلة، الحاسوب الآلي «هال ٩٠٠٠» (دوغلاس رين). خلال الجولة يبدأ النزاع، بين الحاسوب، ورائدي الفضاء.
القسم الرابع يتابع المهمة إلى المشتري، حاملاً عنوان «ما وراء الأبدية». في هذا القسم، يتابع بومان رحلته ويصل إلى النصب الأسود بالقرب من كوكب المشتري. بعد ذلك، يجتاز العديد من المساحات في الفضاء، وهو على متن المركبة. يجد أنها ليست رحلة في الفضاء فحسب، بل رحلة إبحار في الزمن أيضاً. يصل في النهاية إلى مكان يجد فيه نسخة مسنة عن نفسه، متروكة داخل غرفة يعود أثاثها وديكورها إلى القرن الثامن عشر. هذه النسخة تشاهد نسخة مسنة أخرى، والأخيرة تجد نفسها مجدداً قبالة النصب الشهير. عند المواجهة، يتحول المسن إلى جنين يحلّق في الفضاء فوق الأرض. (النهاية التي تكلمنا عنها في مقدمة النص).
عظمة الشريط تكمن في كونه فيلماً بصرياً، وهو ما لا يمكن للكلمات وصفه. يتلقى كل مشاهد فكرة مختلفة عن الآخر. هناك رؤية خاصة لكل من كوبريك وآرثر سي كلارك. لا يمكننا أبداً معرفة ما هدفهما عند كتابة الفيلم. ولكن الأخير يطرح مسألة مهمة، تظهر من خلال الخوف على مستقبل البشرية جرّاء التطور التكنولوجي، الذي قد يغير مسار حياة الإنسان إن لم يتم التنبه لخطورته. أما نهاية الفيلم، فهي الأمل. أمل بولادة جديدة للبشرية عبر عودة الجنين إلى الأرض. رحلة فلسفية بصرية وشعرية خالدة. عمل يفوق التوقعات، وإخراج عبقري على مختلف الأصعدة: القصة، المؤثرات الخاصة، والنهاية. في الواقع، يصعب فهم ما يحدث أمامك في الفيلم. فكل شيء يمكن أن يحصل، المألوف وغير المألوف. الحقيقي والخيالي. هذا هو جوهر الفيلم، والمعنى الحقيقي للسينما.
ش. ط

* «2001: أوديسة الفضاء» على نتفليكس