إلى حين انقضاء المدّة التي تحتاج لها عوارض فيروس كورونا للظهور، تبدو كلّ أجسادنا معتلّة، من أصيب منا ومن لم يصب حتى الآن. جعل الوباء أجسادنا متساويةً، أقلّه في الحجر المنزلي، أي قبل ثبوت الإصابة والانتقال إلى الحجر الصحي الذي يستحضر تاريخاً طويلاً من التعاطي العنيف والقاسي مع جسد المرضى الذين ـــ فضلاً عن علّتهم ـــ يصبحون خطراً داهماً على من هم بجوارهم. تفادي الأجساد المريضة، والهرب منها والإشارة إليها، يبدو استكمالاً لممارسات اجتماعية وسياسيّة في عزل الأجساد العليلة والعاجزة منذ ما قبل الميلاد، حيث كان يتم عزل المصابين بالبرص. بدأ ذلك قبل ظهور وسائل حجر منظّمة ورسمية مع ظهور الطاعون الأسود في القرن الرابع عشر كحجز البواخر وإقفال المدن. مثل الوسمة التي تبعد الجسد العليل في المجتمع، وتهمّشه، يستلقي الجسد المريض في تمثيلاته البصريّة في اللوحات والصور، بجوار الأجساد القبيحة، والعاجزة والبدينة. في منتصف القرن التاسع عشر، طرح الفيلسوف الألماني كارل روسينكرانتز في كتابه «استطيقيا القبح» أفكاراً تبدو كتنظير مسبق لمدارس الفن الحديث التي تخلّت عن الرومانسيّة والمثاليّة. إذ أشار إلى أن القباحة ليست خاصيّة ملحة فحسب، بل هي خاصيّة ذات قدرة لدى تظهيرها فنياً على جعل عمل بشع ذا قيمة جماليّة. فكما تدرس البيولوجيا المرض، والأخلاق الشر، والقانون اللاعدالة، واللاهوت الخطيئة، وجد روسينكرانتز القباحة ملازمة للجمالية. ظهرت البشاعة والتشوّهات في أوقات مبكرة من تاريخ الفن، وظلّت تظهر في مراحل عدّة تحديداً في الحقبة الباروكيّة. غير أنها بقيت مرتبطة بقيم الشرّ، والمجرمين، والمختلين عقلياً، وبالأمراض والعلل التي تسبّب تغييرات جسديّة مثل الأورام، وتقلّص الجسد ووهنه، وانقباض العضل وغيره من التوصيفات التي يطلقها روسينكرانتز على أنواع مختلفة من الأوبئة والأمراض، مشدّداً على «أنّ أكثر التشوهات فظاعة هي بلا شك تلك الناتجة عن مرض السفلس، التي لا تنتج طفحاً جلديّاً مقزّزاً فحسب، بل تتسبب أيضاً في تعفن وتدمير أنسجة العظام...». بصرف النظر عن الخوف من العدوى كما في حالة فيروس الكورونا، فإن عزل الجسد المريض، ينتقل أيضاً إلى عزله جمالياً في اللوحة. إذ يخضع تظهيره غالباً، إلى سمات تبدو جاهزة لأي جسد لا يبلغ الكمال. هنا بعض اللوحات لفنانين قدّموا تمثيلات مختلفة، سياسية وفردية واجتماعية للأجساد العليلة.
سيتا مانوكيان

«رجل مصاب» (من سلسلة «المستشفى») لسيتا مانوكيان (حبر ورصاص على ورق × 17×23 سنتم ــ 1975)

انحازت الفنانة اللبنانية سيتا مانوكيان إلى العذاب الفردي والجماعي خلال الحرب الأهليّة. بعيداً عن الخارج المتفسّخ، دخلت إلى المستشفيات لرسم معاناة المصابين جرّاء القصف بين سنتي 1975 و1976. أنجزت مجموعة من الاسكتشات السريعة بالرصاص والحبر لأجساد ممدّدة على الأسرّة. نرى عجزهم عن القيام بأي حركة كأن أجسادهم امتداد للفراش. في واحدة من رسوماتها تظهر قدما المريض الملقاتان على حافّة السرير بجوار عكّازين فحسب، أمام غياب متعمّد للجزء العلوي من الجسد متقصّدة بذلك التكثيف من حضور إصابته. تحوي اللوحات، إلى جانب وجوه الجرحى وأجسادهم العاجزة، فضاء المستشفى الذي يتوزّع على الأسرّة والطاولات وقناني المياه مثل لوحة «رجل مصاب» التي أنجزتها في الأشهر الأولى لبداية الحرب. في الحروب، حيث يكون الهرب من الموت، هو الهمّ الأكبر، تفقد الأجساد المصابة أهميّتها أمام أجساد الموتى. لكن في لوحاتها، تبدو سيتا مانوكيان كمن يقف بجوار الأجساد في رحلة علاجها، مقدّمة سرديّة خافتة وبديلة عن الحرب الأهليّة.

جيني سافيل

«سيندي» لجيني سافيل (زيت على كانفاس ـــ 56×46 سنتم ــ 1993)

تتقصّد جيني سافيل تشويه كائناتها فتلطّخ وجوهها بالدماء، وتدفع أجسادها بساديّة إلى الزجاج ما يضاعف من تكسّرها. تفوح من لوحات الفنانة البريطانية رائحة اللحم الذي يبدو كما لو أنه يندلق من أجساد نسائها البدينات عن سطح الكانفاس. ليس مستغرباً أن تخرج بكل ذلك فيما تخفي في استديو الرسم الخاص بها صوراً للتعذيب في سجن أبو غريب. لكن إصابات النساء تحمل التباساً، فيبدون أحياناً ضحايا، فيما تظهر أعطابهن كما لو أنها تهدم التنميطات الجماليّة لجسد المرأة. هذا ما نراه في لوحة «سيندي» التي تظهّر وجه فتاة تلفّ أنفها بعد عمليّة تجميل. ضخّمت سافيل من أثر العملية، فجعلتها تبدو كما لو أنها خارجة من حلبة ملاكمة. هكذا يظهر الوجه كأنه يحمل دمويّة وعنف كل المقاييس الجماليّة المفروضة على المرأة مثل حجم الأنف والصدر.

مونش

«ميراث» لإدوارد مونش (زيت على كانفاس ـــ 141×120 سنتم ــ 1897/1899)

خسر إدوارد مونش أمّه وأخته بمرض السلّ، تلتهما خسارات لاحقة لإخوته الذين عانوا من الأمراض العقلية والجسدية. يجلس المرض في معظم أعماله، فاهراً عينيه كما في لوحة الطفلة المريضة بوجهها الشاحب، ولوحات أخرى لأسرّة الموت التي يتجمّع حولها الأقارب والأصدقاء. في لوحته «موروث» التي صوّرت في وقت مبكر جسد طفل مصاب بمرض السفلس، اقتبس الفنان النرويجي وضعية طفل يتمدّد على ركبتي أمه المنتحبة من وضعية مريم العذراء والمسيح. ما أصاب المجتمع حين رسمها في 1897 بصدمة خصوصاً في تجسيده لمرض ينتقل عبر العدوى الجنسيّة. رسم مونش عمله، بعد زيارة إلى مستشفى سان لويس في باريس، حيث شاهد مجسماً مصنوعاً من الشمع لطفل مصاب بالسفلس، ورأى في الزيارة نفسها والدة تبكي طفلها. وفي إعطاء الطفل وضعيّة المسيح، منح مونش قداسة وألوهية لجسده المصاب بمرض كان يعدّ محرّماً حينها.

لوسيان فرويد

«والدة الفنان تستريح» للوسيان فرويد (زيت على كانفاس ـــ 105.4×127.6 سنتم ــ 1982/1984)

تبدو كلّ الأجساد التي رسمها لوسيان فرويد مريضة، بسبب الحفر والنتوءات والترهّلات التي تصيب حتى الأطفال في لوحاته التي تبدو مرادفاً لعلل نفسية. هذا ما دفع مرّة أحد الذين رسمهم إلى إتلاف البورتريه بعدما أغضبه أسلوب فرويد في تظهيره. مثلما رسم بورتريهاً ذاتياً له بوجهه المتورّم بعد عراك، تفرّغ الفنان البريطاني لآلاف الساعات لرسم بورتريهات أمّه المستلقيّة على السرير. لطالما اعتبر الجسد الكهل كائناً ناقصاً، وفي لوحاته لها، أضاف إلى جسد والدته لوسي، مرضاً آخر هو الكآبة التي ألمّت بها لدى موت زوجها سنة 1970. بعد عامين، استخدم فرويد الرسم كوسيلة لمحاربة كآبة أمه التي استمرّت لأكثر من عقد، نتج منها 10 لوحات، وخمس رسومات ضمّتها سلسلة «والدة الفنان» منها «والدة الفنان تستريح» التي تستلقي في وضعيّة أقرب إلى الاستسلام وهي تلقي بنظرة فارغة ومثقلة إلى السقف.

فريدا كاهلو

«العمود المكسور» لفريدا كاهلو (زيت على لوح خشبي ـــ 39.8 × 30.6 سنتم ــ 1944)

لم تتفادَ فريدا كاهلو التحديق في المرآة. ثبّتتها فوق سريرها، لئلا يفوتها شيء من جسدها المعطوب. ظهرت الأسياخ الحديدية التي تقصّ جسمها إلى نصفين، ربّما لم تظهر تماماً، لكنها رأت جسدها بوضعيّة واحدة طوال الأشهر الثلاثة الأولى التي تلت حادث السيّر الذي تعرضت له. عانت الفنانة المكسيكية من العلل الجسدية منذ ولادتها. في طفولتها، نمت قدمها اليمنى ببطء وضعف مقارنة بقدمها اليسرى، فاضطرّت أن تخفيها دائماً بجوارب. بعد الحادث، أخفت جسدها هذه المرةّ، بمشدّ من الجصّ كي يلتئم ظهرها. بالتزامن مع أوجاعها الدائمة الناتجة عن خضوعها لأكثر من 32 عمليّة جراحيّة، كانت الفنانة المكسيكية تكمل علاجها في رسم جسدها. بعد عمليّة أجرتها عام 1944، انتهت بها بأن ترتدي مشدّاً مصنوعاً من الحديد الذي نراه في لوحتها «العمود المكسور»، حيث ينقسم جذعها إلى نصفين، ويتمدّد الوجع إلى كلّ جسدها في المسامير التي تنخر كلّ بقعة من جسدها الذي ظلّ حاضراً في معظم لوحاتها، عبر تمثيلات بصريّة سورياليّة لمعاناته.

إيغون شيلي

«إديث شيلي على فراش الموت» لإيغون شيلي (1918)

رسم إيغون شيلي زوجته إديث قبيل وفاتها بوباء الإنفلونزا الإسبانيّة التي ضربت العالم عام 1918. كانت على فراش الموت، وتوفيت في اليوم التالي. في رسالة إلى والدته كتب شيلي: «أصيبت إديث بالإنفلونزا الإسبانيّة وبالتهاب رئوي حاد. إنها حامل في الشهر السادس، والمرض يشتدّ عليها. إنني أنتظر الأسوأ». رغم المرض الذي كان قد تمكّن منها، فإن الاسكتش لا يخفي فتنة زوجته. ظلّت فاتنة رغم شحوب وجهها وإغماضة عينيها. توقّع الفنان ما كان أسوأ فعلاً، إذ رحل بعد ثلاثة أيام جرّاء إصابته بالداء نفسه، حيث فاق البورتريه وجه زوجته فحسب، بل صار تجسيداً لمصيرهما معاً.