بغداد | قد تكون الأحداث السياسيّة المتسارعة التي تعصف بالعراق، هي المسيطرة على نشرات الأخبار وأذهان المراقبين والمحليين، حتى المثقفين منهم، بين تصاعد التظاهرات وأزمة تشكيل الحكومة وخطر فيروس كورونا المستجد، ولكن، هل للراهن العابر مهما كانت وطأته أن يغطي ذكرى من علموا على الزمان وكتبوا على ساحله كلمة ظلت عصية على أمواج الأيام؟ محمود البريكان (1931 ــــ 2002)، الشاعر الرائد، راهب العزلة وكاهن معبد الصمت والمعرفة. مرت ذكرى وفاته الثامنة عشرة قبل أيّام لتذكرنا بالفاجعة العراقيّة، فما زالت أيام العراقيين حبلى بنوائح الموت وأخبار فجائعه العاجلة، مثلما فُجعت الأوساط الثقافية ذات صباح باردٍ بخبر مقتل الشاعر البصريّ بطعنات سكين مجهولة، في حادثة مروعة هزت مدينة النخيل. ربما لا يعرف الجيل الجديد أن البريكان أحد أركان الحداثة الشعريّة العربية، وأنه كان في قاطرة واحدة مع بدر شاكر السيّاب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة، في قطار الشعر الحديث الذي صاح عالياً في صحراء أربعينيات القرن الماضي، غير أنه قرّر بمحض إرادته أن يترجل من رحلة المجد والأضواء، وأن يمسك منزله، مكتفياً بعشقه الفريد للشعر، الذي يراه «يستحق عمراً بأكمله»، وللموسيقى الكلاسيكية التي كان من أشد المتعلقين بها استماعاً وثقافة نقديّة شديدة الحساسيّة.


«أنا تخليت أمام الضباع
والوحش عن سهمي
ﻻ مجد للمجد فخذ يا ضياع
حقيقتي واسمي»
السياب ذاته قال عنه إنه «شاعر عظيم لكنه مغمور لنفوره من النشر»، ونُسب إليه قوله، بأن رائعته «حفار القبور» هي قصيدة «بريكانية»، تأثراً بمطوّلة البريكان التي سبقتها «أعماق المدينة». هذا التكريس المبكر للبريكان، قابله هو بالإغفال والتخلّي، بالزهد عن منصات المهرجانات والمناصب الثقافية الرفيعة، والشهرة التي كانت تطارده فيطردها، ليعيش حياة بسيطة منعزلة، تليق بفيلسوف متأمّل، أو ربّان سفينة بلا بوصلة، مكتفياً بطبشور المعلّم وقاعات الدرس ووجوه طلبته الكالحة، معلماً للغة العربيّة بين العراق والكويت حتّى أُحيل إلى التقاعد.
«يبدو لي الشعر فناً لا يقبل التسخير ولا يحيا مع الحذلقة. ليس الشعر وسيلة لتحقيق أي غرض مباشر، ولا طريقة للتنفيس عن عواطف فجّة، ومن ثمّ فهو لا يخضع للتنظيم الخارجي، وقلّما يعكس رغبات الشاعر اليومية، لأن منطقته هي منطقة الذات العميقة». تختصر هذه العبارة الأيقونية منهج البريكان في الشعر، وقد كانت حياته تطبيقاً صارماً لها. لم يكن ممن يسخّر شعره لغرض نفعي، لم يتكسب به ولم يتقرّب من خلاله لحاكم، كما لم يخضع لسلطة الإعلام الثقافي السائد، ولا لأهواء الوسط الثقافي وزيفه وأكاذيبه. كانت للشاعر قدرة «طبيعية» و«أصيلة» على مقاومة الكذب الشائع في المشاهد الثقافية العامّة، والإعراض عن «موضاتها» المغرية، مترفّعاً عن الخوض في بطولاتها الوهمية، تلك التي لا تلبث أن تنحسر بانحسار أسباب تحققها، وهي غالباً أسباب مؤقتة عرضية.


جنح الشاعر بنصوصه إلى البعد الميتافيزيقي، إلى الفكرة والنبرة الخفيضة، وما يلامس ويحاور ذات الإنسان ومصيره الغامض، عبر إطار تساؤلي غير يقيني، متردّد. ومن اللافت أنه استطاع في ظلّ الشيوع الكبير للشعر السيّاسي وتيارات الفكر الأيديولوجي المحافظة على نقاء شعره من أيّ استقطاب حزبي. وقت كان الشعراء مقسّمين إلى معسكرات وميادين، مع وضد، عدو وصديق، كان يقول «لم أتلاءم مع مطالب الوسط الأدبي لا سابقاً ولا لاحقاً». أراد البريكان أن يظل عصيّاً على التصنيف، منعزلاً كعزلة معاناته الداخلية رغم الهدوء الأخّاذ الذي يبدو عليه لمن عاصره، لقد أدرك أن الشعر يأتي من جهة أخرى، لا جهة الحدث الراهن ذي البعد «الجماهيري».


هذا الشعر الغريب، المنحاز لحوار النفس الداخلي، المنتصر للذات المسحوقة، مذهب سرّاني في الشعر العراقي الحديث لم يسلكه كثيرون، لأنه مذهب لا «أنصار» فيه يتّبعون شاعر «القضية». القضية هنا فرديّة، منغلقة، والحقيقة فيها حقيقة شخصية، كيانية، لا تعني الجموع وليس فيها مردود. مرّة قال أنسي الحاج إن في «لن» قصائد مغلقة لا يعرف أحد مقاصده فيها، وهو ما تشعر به مع البريكان وبعض نصوصه المنغلقة «ظاهرياً»، لكن تنافذها مع الجوهر الإنساني جليٌّ ولامع، في محاولة للتعبير عن حقيقته الشخصية جمالياً.
فوزي كريم، الستيني الراحل، أحد أركان هذا المذهب، ومن القلائل الذين دافعوا عنه ونظّروا في مقالاته وكتبه. ولذا احتفى دائماً بالبريكان برفقة السياب وصلاح عبد الصبور، عادّاً قصائدهم صالحة لتشكيل «مائدة حوار داخل الشاعر»، وهو يرى البريكان، وإن كتب عن ثلاثيّة «التاريخ، الحدث، الخارج»، فإنّما كتبها لينفلت منها، يقول: «الإنسان، شرط حياته، ومصيره، محور مركزي في كلّ تجربة البريكان الشعرية. وهو بهذا المحور يقف على مبعدةٍ من التيار الشعري العراقي الرائد جملة، باستثناء السياب. الإنسان، لا الأفكار التي يولدها الإنسان بفعل معتركه مع التاريخي، هو الذي يعني البريكان الشاعر بالدرجة الأولى».
أحد أركان الحداثة الشعريّة العربية كان في قاطرة واحدة مع السيّاب والبياتي ونازك الملائكة


حين نقرأ جديد ما يصدر من مجاميع شعريّة في العراق اليوم، نرى أن أضواء هذا المذهب الراعشة تكاد تتلاشى وتنطفئ، فالقصيدة، في المجمل الأعم، وإن كانت «جديدة» في شكلها، «حديثة» في لغتها، فإنها قصيدة «موضوع»، تتوسّل شأناً ملحقاً خارج الشعر تتكئ عليه، قد يتمثّل في حدث سياسي عام (مظاهرات/ تفجيرات/ صراع طائفي)، أو مضمون جمعي رائج يستدعي موقفاً، هو بالضرورة أيضاً، موقف سياسي عام وعائم وكليشيه. ولا نعدم قراءة مثالب نقدية لمن يُفارق هذا المزاج ويكتب نصّه الشخصيّ المتكئ إلى وعي الكاتب بذاته خارج السياقات العامّة.
وفي ضوء ذلك، نرى البريكان غريباً في المشهد الشعري الراهن، بعيداً عن «هاشتاغات» الميديا المتلاطمة، وشعارات الساحات والمنابر الرسميّة والثقافية، فقصيدته لا نفعيّة، تصلح للظلال الخافتة لا مكبرات الصوت الزاعقة في سوق المنادين على بضائعهم.
يبقى السؤال الأخير بعد كلّ هذه السنوات الثمانية عشرة على رحيل البريكان: أين وزارة الثقافة واتحاد أدباء العراق وجامعة البصرة من طباعة أعماله الشعريّة الكاملة؟ هناك دفاتر ومخطوطات شعرية سُرقت من بيته ليلة مقتله على يد السارق المجهول، ولكن هناك على أيّ حال نصوص منشورة في الصحف والمجلات ممتدة على مدار خمسين عاماً، يمكن أن تشكل متناً جيداً للراحل. هل يعقل أن يُترك البريكان حتى اللحظة بلا ديوان يحفظ للدارسين والباحثين والقرّاء إرثه الثرّي؟ ومتى نتعلم الحفاظ على تراث مبدعينا من الضياع على الأقل بعد وفاتهم بعدما ضيعنا حضورهم النادر واكتفينا بالمراثي. ولنتذكر هنا قصيدة مؤثرة كتبها سركون بولص: «حبلُ السُرّة انقطع، وامتدّ حبلُ المراثي».



محمود البريكان واللصوص في البصرة

سركون بولص
حَبلُ السُرّة أم حبل المراثي؟
لا مَهرَب: فالأرض ستربطنا إلى خصرها
ولن تترك لنا أن نُفلتَ، مثلَ أُمّ مفجوعة، حتى النهاية.
كلّ يوم من أيامنا، في هذه الأيام، جمعةٌ حزينة!
ويأتيني، في الجُمعةِ هذه، خبَرٌ بأنّ البريكان
ماتَ مطعوناً بخنجر
في البصرة
حيث تكاثرَ اللصوص، وصارَ القـتـَلة
يبحثونَ عن... يبحثون، عَمَّ صارَ يبحثُ القتـَلة؟
حتى هذا الشاعر الوديع لم يَنجُ، هو الذي
كان يعرفُ منذ البداية لونَ القيامة، وهجرةَ الفراشة
نحو متاهة العالم السفلي، حيثُ الليل، واللّـه، واحد.
أكانت هذه معرفتك، هل كان هذا سرّك؟
كنتُ أراك، أنتَ الملفَّع بغشاء سرّك
بين حين وآخر، في مقهى «البرلمان»
حديثنا عن رخمانينوف، عن موتزارت.
 
واليومُ الذي أتذكّركَ فيه
اليومُ الذي فيهِ بالذاتِ أراك:
كنتَ اشتريت «صُوَر من معرض» لموجورسكي
من «أوروزدي باك»...
 
واللـّه أعلـَم كم كلّفتكَ تلك الأسطوانة
من راتبك الضئيل!
(سأُسمِعُها، في ذكراكَ، اليومَ، نفسي.)
سأصغي... وها هو الخبَرُ يأتيني.
 
حبلُ السُرّة انقطع، وامتدّ حبلُ المراثي.
إنه الليل. نـَمْ، أيّها الشاعر. نـَم، أيّها الصديق.