وفي اليوم الألف، لم تتوقّف الحرب. لقد حرثنا تضاريس البلاد جيداً، من شمالها إلى جنوبها، نهبنا الكنوز القديمة المدفونة تحت التراب، ودفنّا الموتى والأحياء في مقابر وخيام مرتجلة، اختلطت أقمشة الشعارات والأعلام والرايات بأقمشة الأكفان، في أطول لحن جنائزي، واستعملنا بجدارة تفوق الوصف، كافة أصناف الأسلحة، بما فيها السكاكين والسيوف الصدئة لجزّ الأعناق، مرفقة بصيحات «الله أكبر».

عظام الموتى تكفي لإعادة تركيب هيكل عظمي لديناصور ضخم.
ديناصور يتجوّل في الأرض الخراب، باحثاً عن أسلافه. ديناصور يشاركني قهوتي وسريري وكتبي. ديناصور يدخّن تبغ الغنيمة باطمئنان. ديناصور خرج من «الحديقة الجوراسية» في وضح النهار، وأخذ يحطّم كلّ ما في طريقه نحو الهاوية. الديناصورات تخرج من الكتب، حتى أن القصّة التي كتبها أوغوستو مونيتروسو، واعتبرها غابرييل غارسيا ماركيز، أعظم قصة قصيرة صادفها في حياته، كانت تلحّ عليّ طوال هذا اليوم، ذلك أن بطلها ديناصور أيضاً «عندما استيقظتُ من نومي، كان الديناصور لا يزال هنا». انتهت القصة عند هذا الحدّ، بأقلّ من عشر كلمات، لكن الديناصور لا يزال هنا حقاً، وبدقة أكبر، لا أحد موجود سواه. أفكّر بمخاطبته، غير إنني لا أجد لغة مشتركة بيننا. أذهب إلى مشاغلي الأخرى، من دون أن يغادر الديناصور الغرفة، فقد كان يسدُّ عليّ النافذة الوحيدة للضوء، النافذة التي كنتُ أرقب خلالها القنّاص المتوهَّم، و هدير الحوّامات، وأسراب الغربان، وحركة العاملة البدينة في مشغل الخياطة، في البناء المقابل. أتتبع حركة الإبرة فوق القماش الأبيض، هل ما كانت تطرّزه كفناً، أم ملاءة لسريرٍ فارغ، أم هي بينلوب أخرى، تنسج خيوط الزمن الضائع، بانتظار محارب لن يعود؟ لا يجيبني الديناصور. أظنّ بأنه في إغفاءة قصيرة، بعد أن التهمَ، في وجبةٍ واحدة، أشجار قرية كاملة، وشارعين، ومئذنة، وتسع دراجات هوائية، ومكتبة، وثلاثاً وعشرين حقيبة مدرسية، وحقل سبانخ، وواجهة متحف، وفناء كنيسة، وسبطانة مدفع مهجور، ومخزناً للطحين.
في هذه الأثناء، كان أحمد البديري الحلّاق، ينهي يومياته بقائمة لموتى الطاعون بقوله «وقد طال الأمر، وكثر القهر، وزال السرور، وزادت البغضاء والشرور، ولم يدرٍ الإنسان أين يدور، من شدّة البكاء والنفور، ولله عاقبة الأمور».
في اليوم الألف، واليوم الذي تلاه، لم تتوقف الحرب، وكان على شهرزاد «ي» المنهكة، أن تستدعي ليالٍ أخرى، كي تنجو من الهلاك.
لا تكفي حكاية إضافية واحدة، حتى تغلق باب الغواية في وصف طبقات الجحيم، فإن تتجاوز اليوم الألف، هذا يعني دخولك في الليالي اللانهائية، وفقاً لرؤية خورخي لويس بورخيس، وما عليك إلا أن تتعلّم العدّ من جديد: يوم، يومان، شهر، مائة يوم، خمسمائة يوم... ولا يزال الديناصور هنا.
* مقطع من رواية بعنوان «جنّة البرابرة»، ستصدر قريباً عن «دار العين» (القاهرة).