لندن | ربّما كان هيغل أهم عقل أنجبته الفلسفة الغربية في مرحلة التحولات الكبرى التي شهدتها أوروبا بعد مفصل الثورة الفرنسيّة. تركت أفكاره في فلسفة التاريخ وميكانيزم التغيير تأثيراً عميقاً على أجيال من المفكرين والثوريين بعده بمن فيهم ماركس وإنجلز ولينين. لكن العالم في 2021 ليس العالم في 1883، ومعظم الأفكار الهيغيليّة التفصيليّة لم تعد ذات صلة اليوم، اللهم لبعض المتخصصين والمهووسين بتلك المرحلة. إلا أن مراجعة منظومات الفكر التي صاغها هيغل وبنى عليها الماركسيّون منهجهم في تحليل حالة «الاغتراب»، ومنطق العمليّة التاريخيّة ومكان الثوريين فيها كما أسس الديالكتيك المادي كأداة لفهم التغيير، قد تكون طوق الإنقاذ النظري من الاجتهادات الثوريّة اللاحقة في التجربة الماركسيّة السوفياتيّة وتيارات «الماركسيّة الجديدة» الفرنسيّة التي سقطت في فخ الميكانيكية. المفكّر البرجوازي، قد يكون أداتنا لإنقاذ الماركسيّة من تلاميذها الضالين.
هيغل أوّل من طرح مفهوم «الاغتراب» في إطار سعيه لصياغة تفسير لعلاقة البشر بالعالم من حولهم

لا ينكر أحد مكانة الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل (1770 - 1881) في تاريخ الفلسفة المثاليّة الألمانيّة التي كانت في الفترة ما بعد الثّورة الفرنسيّة، بمثابة عقل العالم الغربي. ولا أحد ينكر دوره في تكوين أفكار الثنائي كارل ماركس (1818 – 1883) وفريدريك إنجلز (1820 – 1895) عن العالم، وصياغة ماديتهما التاريخيّة لاحقاً. أمر طالما تفاخر به ماركس، وإن كان تعامله مع أستاذه دائماً نقدياً بامتياز. لكن هل هناك ثمّة حاجة بنا إلى تراث هيغل اليوم كثوريين نتصدّى لمسألة تغيير العالم؟ هل يستحق هذا الفيلسوف الكبير أن يُستعاد مجدداً في الدوائر الثورية رغم أنه كان منظّراً برجوازيّاً (يمينياً)، وأن قراءة نصوصه المجرّدة الشديدة التّعقيد كأنها «مضغ للحصى» على حدّ تعبير مفسّريه المعاصرين؟ ليس أيّ من نصوص هيغل ــ وأغلبها للأسف تلفيق من ملاحظاته وملخصات تلاميذه على المحاضرات التي كان يلقيها في جامعة برلين ــ وربما ليس أي من استنتاجاته، مهماً بحد ذاته، وراهناً بقدر أهميّة المنهج الفكري الذي طوره في إطار محاولته الشديدة الأصالة لتفسير العالم وحركة التاريخ إبان مرحلة تاريخيّة شهدت انعطافات غير مسبوقة في تسارعها وعمقها واتساع مساحة تأثيرها.
يقترح البريطانيان تيري سوليفان ورفيقه دوني غلولستين ثلاث مساحات محددة من المنهج الفكري الهيغلي، استخلصها ماركس وإنجلز وكانت ـــ مع ماديّة فيورباخ ــــ أحد الأعمدة النظريّة الثلاثة التي بني على أساسها المعمار الماركسي إلى جانب الأفكار الثورية الفرنسية وعلم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي البريطاني، وتبدو ذات صلة بالعمل الثوري المعاصر: أولها «مفهوم الاغتراب»، وثانيها «فلسفة حركة التاريخ»، إضافة إلى صيغة الديالكتيك كأداة لتفكيك عملية التغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي.
كان هيغل أوّل من طرح مفهوم «الاغتراب» في إطار سعيه لصياغة تفسير لعلاقة البشر بالعالم من حولهم، وهو في ذلك امتلك رؤية عريضة تربط كل الأشياء في نظام واحد متداخل. ورغم أن استنتاجاته النهائيّة في هذا الشأن نحت باتجاه فلسفي مثالي يجعل شعور الإنسان بفقدان التواصل أو محدوديته بما حوله نتاج غياب وعيه بموضعه من «العالم – الإله» الذي هو جزء لا يتجزأ منه، إلّا أن مجرد تساؤله بشأن طبيعة إدراك الفرد لإطاره الاجتماعي ومدى تماهيه معه، يفتح الباب للتفريق بين مسألة وجود الطبقة (العاملة مثلاً) ووعي الطبقة لذاتها الذي هو أمر آخر تماماً. وهو ما وجد فيه ماركس أداة تفكير مثيرة للاهتمام. إذ بدون هذا المفهوم المتقدّم، فإنّه قد يستحيل نظريّاً تفسير إقدام أفراد الطبقة العاملة (في بريطانيا مثلاً) على التصويت ضدّ مصالحهم، وانتخابهم حكومة يمينيّة شوفينيّة تخدم أساساً مصالح الأقليّة الثريّة في البلاد.
لا تكتمل تجربة الوجود الإنساني عند هيغل إلا عند إنهاء حالة الاغتراب في إطار الدولة على النسق الأثيني (على الأقل بالنسبة إلى غير العبيد)، حيث قيم الدولة وقوانينها خاضعة للإرادة الشعبيّة العامّة، ولا تناقض جذرياً بينها وبين الأفراد، فيما ماركس يرى أن إنهاء الاغتراب يتحقّق حصراً بوعي الطبقة العاملة لذاتها ولدورها، ومن ثم كسرها هيمنة القلّة وإنهاء الحالة الطبقيّة بمجملها لمصلحة مجتمع من البشر الأحرار المتصالحين مع إنسانيتهم، وإنسانيّة الآخر، ومع العالم الطبيعي من حولهم.
أما في «فلسفة التاريخ»، فإن صنعة التأريخ قبل هيغل كانت نحواً من تسجيل شهادات سلبية الطابع عن الأحداث، أو مجرّد دعاية فجّة لذلك الحاكم أو تلك السلالة المالكة التي قضت على أعدائها. لكنه اقترح أن وراء تسلسل الأحداث التاريخيّة صراعاً معقداً بين قوى متناقضة ومتداخلة في آن، يدفع بعجلة التاريخ إلى الأمام، نحو «مطلق الحريّة» وفق قوانين وأنماط يمكن توظيفها لفهم اللحظة أو الحقبة التاريخية المعيّنة. هيغل ــ المفكّر البرجوازي المحض ــ بنى فلسفته على تجربة طبقته التي كانت تعيش مناخاً ثورياً فائراً ضد النظام القديم في أجواء الثورة الفرنسيّة (بدأت في عام 1789 وما بعدها) وقبل أن ترتد البرجوازيّة، وفيهم هيغل نفسه، إلى مواقعها اليمينيّة المحافظة بعد انتصارها الحاسم. المنهجيّة الهيغليّة في تحليل تحولات الأحداث بداية من ضرورة وضع كل الأمور في سياقاتها التاريخيّة، إلى الاعتراف بدور الإنسان في تشكيل واقعه والمستقبل، مروراً بقبول مبدأ وجود قوانين وأنماط تحكم العمليّة التاريخيّة في إطار أفكار الحقبة الزمنية موضع البحث وظروفها الماديّة، وفكرة تقدّم التاريخ وفق منطق التناقض الديالكتيكي، كلّها تحوّلت - كأدوات تفكير - إلى عدّة عمل في الماركسيّة، وفي الماديّة التاريخيّة تحديداً (التي هي على نحو ما علم التاريخ متمركساً)، مع ملاحظة أن ماركس بخلاف هيغل منح الظروف الماديّة (نظام العيش) أولويّة فوق الأفكار في صياغة الأطر التي تحكم العمليّات التاريخيّة. وفي الحقيقة، فإن أي محاولة يقترفها مؤرخ أو محلل سياسي أو ناقد ثقافيّ لتفسير العالم، أو أيّ من أحداثه أو منتجاته الثقافيّة دون الاستعانة بهذه الأدوات الفكريّة التي وفرها هيغل وصقلها ماركس، تبدو أقرب إلى هذر مؤدلج، أو تحليل مسطح أو وصف تسجيلي يفتقد إلى قيمة فعليّة أو عمليّة، تماماً كما يفسّر البعض انتشار الأمراض بالغضب الإلهي أو ما شابه من الخزعبلات.
لا تكتمل تجربة الوجود الإنساني عند هيغل إلا عند إنهاء حالة الاغتراب في إطار الدولة على النسق الأثيني


مساهمة هيغل النظريّة لا تكتمل ـ من وجهة نظر عصريّة معنيّة بالغد الأفضل ـ من دون صياغته العبقريّة لقوانين الديالكتيك التي تفسّر التغيير بأشكاله المتفاوتة (والمتداخلة) في المجتمعات البشريّة. وهي قوانين (لها جذور عند أفلاطون وكانط) تصف منطق جدليّة تناقض بين متعارضات تنتهي إلى تغيير تاريخي نحو مستوى آخر أكبر من مجرّد مجموع المتعارضات الأساسيّة. مثلاً البرجوازيّة الرأسماليّة احتاجت إلى عمّال لإدارة مصانعها فخلقت نقيضها الطبقة العاملة، ومن صراع هاتين الطبقتين يفترض أن ينشأ مستوى جديد تنعدم فيه نظريّاً الطبقات وهكذا. وصف الديالكتيك بالطبع مسألة أسهل بكثير من محاولة فهم منطقه ومعناه في قراءة العالم والتاريخ والحاضر التي تحتاج إلى صرامة عقليّة ونزاهة فكريّة نادرة، لكننا كثوريين ننتهي ــ من دون الديكالتيك الهيغليّ ـــ إلى القراءة الميكانيكيّة للماركسيّة التي ترى في التاريخ قوّة مستقلّة عن إرادة الناس، كما لو كان قاطرة ينبغي لنا انتظارها للانتقال بنا إلى المحطة التالية، وفكرة أن أزمة الرأسماليّة وتناقضاتها تجعل من الاشتراكية قدراً محتماً - لا كما فهمها ماركس فعلاً: صراعاً لا بد من خوضه وتحقيق الانتصار فيه. وتلك فكرة خطيرة في تبعاتها، إذ يرى البعض بأنها تحديداً تسببت للماركسيين الألمان والسوفييت في ثلاثينيات القرن الماضي (وبعض تيارات الماركسيّة الجديدة في فرنسا لاحقاً) بموقف ملتبس من صعود الفاشيّة بوصفه جزءاً من تناقض داخل المنظومة الرأسماليّة في إطار مرحلتها الأخيرة وقبل سقوطها النّهائي المحتّم. أمر لم يحدث، وسقط الاتحاد السوفياتي نفسه ولم تسقط الرأسماليّة بعد. منطق هيغل، الذي تبناه ماركس (وإنجلز دائماً) يجنّب الثوريين الوقوع في أيّ من الموقفين المُتَطرفين: بين الثورة في أي وقت لإطلاق عمليّة التغيير دون النظر في العوامل الموضوعيّة للحالة التاريخيّة، أو انتظار الثورة لتحدث من تلقاء ذاتها من خلال التناقضات المجتمعيّة، ويقترح منهجاً بديلاً يقوم على تحليل كليّ للحدث التاريخي (كيف يمكن الحديث عن الثورة مثلاً دون فهم أسس الهيمنة الأميركية السياسيّة والثقافية على المجتمعات المعاصرة من بريطانيا إلى لبنان)، مع رفض السلبيّة تجاه الأحداث وصيغة الاكتفاء بالنضال النظري من وراء شاشات الهواتف الذكيّة.
في هذا العالم المتأزّم، المتخم بالصراعات والحروب وغزوات الإمبراطوريّة الفاجرة، كما التهديدات الوجوديّة التي أنتجتها الرأسماليّة من أسلحة نووية وبيولوجيّة وتغييرات مناخيّة وبيئيّة، فإن أي معنيّ بفهم ما وراء الأحداث وتفسير صيرورة التاريخ لأغراض النّضال الثوري لا بدّ من أن يبدأ – كما فعل ماركس تماماً – من حيث انتهى هيغل.