برلين | هل شريكك الجنسي يرفض استخدام الواقي الذكري؟ «أبداً نادراً أحياناً دائماً». هل أجبرت على القيام بعمل جنسي؟ «أبداً نادراً أحياناً دائماً». أسئلة صعبة وشخصية وخيارات جاهزة على أوتوم (سيدني فلانيغن) البالغة 17 عاماً اختيار أحدها كإجابة خلال المقابلة في عيادة الإجهاض. أسئلة تبدأ بالعلاقات الجنسية ولا تنتهي بالعنف الجنسي، تحاول الإجابة عنها بصدق. مارست الجنس مع ستة أشخاص، ليس بمحض إرادتها مع كلهم، وتغاضت عن العنف الجنسي الذي تعرضت له. إنها مجرد مراهقة، نشأت في عائلة من الطبقة العاملة في ولاية بنسلفانيا الريفية، التي غزاها ترامب في الانتخابات الأخيرة بعدما كانت دائماً ديمقراطية منذ عام 1988. وهي الآن مع ابنة عمها وصديقتها المقربة سكيلار (تاليا رايدر) في نيويورك لإجراء عملية إجهاض. قبل ذلك، كانت أوتوم تغني في مدرستها الثانوية. حياتها عادية مثل الكثير من المراهقين في أيام لا يحدث فيها الكثير. في المساء، تلتقي أصدقاءها المراهقين في المطعم الوحيد في القرية. هناك ترش الماء على شاب يسخر منها. في غياب الدعم العائلي الحقيقي، تدافع أوتوم عن نفسها في عالم يسيطر عليه الذكور وتعامل كشخص من الدرجة الثانية. إنها تعمل مع ابنة عمها في سوبرماركت، كلما قدمت الأرباح لأمين الصندوق من خلال فتحة صغيرة؛ يقبّل يديها! الفتيات يتحملن، يصمتنَ ويدافعن عن أنفسهن بطريقتهن الخاصة. أوتوم حامل الآن، وتريد الإجهاض والمخرجة الأميركية إليزا هتمان لديها هذه القصة التي عرضتها ضمن المسابقة في «مهرجان برلين السينمائي» بدورته السبعين المقامة حالياً.

فيلمان عن الموضوع

في الكتابة عن الأفلام التي تتكلم عن الإجهاض؛ لا يمكن اغفال فيلمين يعتبران من أهم وأجمل الأفلام التي تكلمت عن هذا الموضوع. الأول هو فيلم Invisible للمخرج الأرجنتيني بابلو غيورغيلي (متوافر على نتفلكس) الذي شارك في «مهرجان البندقية» عام 2017. والفيلم الثاني الأهم والأجمل، الذي حصد جائزة السعفة الذهبية في «مهرجان كانّ» عام 2007 وهو «4 أشهر و3 أسابيع ويومان» للمخرج الروماني كريستيان مونغيو.

بنص مباشر، وحنان كبير لشخصياتها النسائية مع الحفاظ على مسافة منهن ودقة عاطفية حادة؛ تُرسل الفتاتين في رحلة إلى نيويورك عبر حافلات تتوقف في كثير من المحطات التي تربط سهول بنسلفانيا بنيويورك غير البعيدة جغرافياً ولكنها عالم آخر. الكاميرا لا تفارق الفتاتين، هتمان لا توسع الإطار أبداً، لا تتركها تتجول في الأماكن الشاسعة وفي طرقات السفر. ونيويورك هنا مختلفة، التفاحة الكبيرة هنا ليست الأسطورة التي يحلم بها الملايين، بل تمثل مكاناً مجهولاً هو المكان الوحيد لأوتوم. الفتاتان ناضجتان، ترفضان العقبات والانجرافات المحتملة للمدينة الكبيرة، إنه الإحساس بالمسؤولية. وحيدتان في مواجهة شيء كبير، لكنهما تتقاسمان هذه المسؤولية بطريقتهما الخاصة. بيد ممدودة تضغط على اليد الأخرى لنقل تلك القوة الصغيرة. إنها قصة خيالية، يتمّ سردها كأنها فيلم وثائقي، خاصة في مشهد الأسئلة، وفي تلك الرحلة في شوارع نيويورك حيث تسمع أصوات المطر وحركة المرور، وتختزل الأماكن وتختبر الشوارع من خلال الشابتين. لا تستخدم هتمان سعي الرجال، منذ بداية القصة، وراء الشابتين كوسيلة لمهاجمة الذكورية. إنها تبحث عن زاوية أخرى لتظهر بالضبط ما يؤلم أوتوم وسكيلار. لا تتحدث أوتوم مع والدها، بينما لا تظهر سكايلار أي اهتمام بالصبي الذي يتقرب منها في الحافلة، ورب عملهما يقبل الأيدي، ليس للشكر. في هذه اللحظات، نرى نظرات كلّ منهما تقول بأن لا معنى لمحاولة تغيير الواقع، لا تستطيعان فعل شيء، فتختاران درع الهدوء وتطييب الخواطر، متظاهرتين بأن لا شيء يحدث، معاً تستطيعان تحويل أي شيء حزين إلى شيء بسيط ومضغوط مثل العواطف السيئة لطردها من داخلهما. فيلم قوي، يناقش الإجهاض والصداقة والتمييز الجنسي بطريقة شخصية وعامة، من دون رومانسية أو سنتيمالية أو ميلودراما ولكن من خلال رابطة قوية من الحب والمودة. الفيلم واضح، تتم تصفية كل عواطف القصة بدقة، بلحظات من الفكاهة والحنان والحزن والألم. لا يتناول الفيلم مشكلة ما، فالإجهاض ليس الحبكة ولا هو نقطة التحول في حياة أوتوم. يتم التعامل مع القرار بجدية. فلا يتعلق الأمر بالأخلاق بل بالعملية القانونية، العقبات، الفحوص الطبية، الأسئلة المتكررة والألم. ويصبح واضحاً أن الإجهاض ليس سحراً ينتهي بثانية. مع ذلك، لا تقلّل هتمان من أن الإجهاض هو أخطر وأعظم ما فعلته أوتوم على الإطلاق. ومع ذلك يمكننا أن نتخيل أنها ستعود إلى حياتها في النهاية. قد تكون قصة حمل غير مرغوب فيه في سنّ المراهقة قصة درامية بصوت عال، مليئة بالدموع والغضب والأحزان وغيرها من المشاعر التعبيرية. لكن هتمان تأخذ في المقام الأول موقف مراقبة شخصياتها عن كثب، وإيلاء المزيد من الاهتمام لإيماءاتهم ومواقفهم وليس لما يقولونه (يحتوي الفيلم على عدد قليل من الحوارات). يبتعد السرد عن التكثيف الدراماتيكي. تطوّر هتمان القصة كما تحدث بالضبط مع الفتاتين؛ كمواجهة مضايقات جنسية من قِبل رجال بالغين مراراً وتكراراً كحدث يومي. يكشف الفيلم بمهارة عن التناقض بين إضفاء الطابع الجنسي على الفتيات المراهقات وإنكار حقوقهن في تقرير مصير أجسادهن. ينظر إليهن على أنهنّ متاحات جنسياً، غير أنهن، في الوقت عينه، أصغر من أن يخترنّ الإجهاض. من دون تجاهل الإجهاض باعتباره الموضوع الرئيس، تحاول هتمان تقديمه كما لم يقدّم من قبل من خلال أوتوم التي تبحث عن طريقة لإنهاء الحمل في مواجهة معارضي هذا العمل، الذين لا يتربصون فقط في الشوارع، بل أيضاً هم من ممارسي طب النساء، والموقف القانوني الذي لا يأخذ في الاعتبار فتيات مثلها. الإجهاض ليس القضية الرئيسة هنا، بل عواقب سلسلة من العنف على جسد وعقل ملايين من النساء حول العالم، بما يتجاوز القوانين والاختلافات الثقافية السائدة في كل بلد. هتمان تبحث عن كثب. تشاهد من دون أحكام. الفتيات لسن ضحايا، لكنهن محاصرات بالدور الذي يفرضه عليهن المجتمع الذي يهيمن عليه الذكور. إنهنّ عاجزات، لكن الإيماءات الصغيرة بأصابع اليد تظهر أن رابطة النساء أقوى من أيّ اعتداء من ذكر. رسمت هتمان شخصيتها بطريقة هادئة، قدمتها في سرد هادئ لا يهدف إلى شحذ العواطف أو استنباط مشاعر قوية من الجمهور إلا نادراً، خاصة في مشهد الأسئلة؛ إذ لا تفارق الكاميرا وجه أوتوم ولا تعطيها شيئاً من الخصوصية. مشهد يخلق تقارباً بين الجمهور والشخصية، ويُظهر ضآلة مساحة الحماية، وانعدام خصوصية المرأة الشابة في موقفها. هتمان مباشرة، لا تحاول رفع قيمة العاطفة المطلوبة أكثر مما يستحق الوضع، بل تركت الفتاتين ترتكبان قرارات خاطئة وسخيفة طوال الوقت، فليستا لطيفتين دائماً. ومن المحبط أن نرى كيف اضطرتا إلى فرض قناع قوة لا يسمح لهما بطلب المساعدة عندما تحتاجان إليها. إنهما تدركان أن العالم لا يمشي مثلما يحلو لهما، وإن فعل ذلك فسوف يطلب شيئاً في المقابل.نادراً ما نشاهد فيلماً عاطفياً غير متطلب. قدمت هتمان الفيلم بلا مبالغة، بلا تفاهة، بلا لحظات إجبارية وكليشيهات. بحثت عن مفهوم مرئي يربطها بالموضوع لتقدّم به عملاً شاملاً متماسكاً. فصلت نفسها عن الحالة النفسية للحالة الفردية الملموسة والموضوعية وألقت بياناً عاماً حول موضوع تقرير المصير الجنسي. أوتوم ليست ضحية، لكنها شابة مسؤولة يجب احترام أهدافها الشخصية. في النهاية نرى ابتسامتها للمرة الأولى، لكن الطريق كان وعراً!