في «العلاقات العراقية الفرنسية: دراسة تاريخية سياسية (1968 – 2003)» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر _ 2013)، يقدّم محمد عبدالله العزاوي مادة تاريخية سياسية يرصد فيها اتجاهات العلاقات بين العراق وفرنسا ضمن فترة زمنية طويلة نسبياً. يتوزّع الكتاب على ستة مباحث تبدأ بمدخل تعريفي لعلاقات فرنسا مع العراق حتى عام 1968، وينتهي بالاحتلال الأميركي وتداعياته الإقليمية. رفد البحث ببعض الملاحق، من ضمنها لقاء صدام حسين والسفيرة الأميركية في بغداد إبريل غلاسبي في 15 تموز (يوليو) عام 1990. يعود الأكاديمي والباحث العراقي إلى بدايات العلاقات حيث تثبت وثائق الخارجية الفرنسية أن جذورها تعود إلى عام 1623، أي حين أصبحت الإرساليات التبشيرية الكرملية، التي تعيش في مدينة البصرة، تتمتع بحماية الحكومة الفرنسية. ثم تزايد الاهتمام الفرنسي بالعراق في الربع الأخير من القرن السابع عشر حين عينت باريس، رئيس دير الكرمليين بتي دو لاكروا قنصلاً لها عام 1674.
بناءً على هذا القرار، قام 11 أباً من الكراملة بواجبات القنصل في الفترة الممتدة بين 1674 و 1739. وبقيت إدارة القنصلية الفرنسية في البصرة في أيدي رجال الدين إلى أن عيّنت الحكومة الفرنسية بيار دو مارتنفيل أولَ قنصل علماني في المدينة نفسها للإشراف على الأعمال التجارية فيها. ظهرت أهميّة العراق بالنسبة إلى الفرنسيين _ وفق الكاتب _ إبان حرب السنوات السبع (1756 _ 1763). أدرك قادة البحرية الفرنسية وحكّام الجزر الفرنسية في المحيط الهندي أهمية ميناء البصرة، وأرسلوا تقاريرهم لحكوماتهم، محاولين لفت أنظارها إلى أهمية العراق الاقتصادية والاستراتيجية.
يدرس صاحب «دراسات في تاريخ الخليج العربي الحديث والمعاصر» العلاقات الفرنسية _ العراقية خلال فترة العهد الملكي (1921_ 1958)، واصفاً إيّاها بالحذرة وغير المستقرة؛ لأن العراق كان خاضعاً للانتداب البريطاني، إلى جانب المواقف الفرنسية الموالية لإسرائيل خلال مشاركتها في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
يجعل العزاوي عام 1967 البداية الحقيقية للتقارب العراقي الفرنسي. أدرك شارل ديغول أنّ على بلاده تبني سياسة استقلالية تختلف عن النهج الذي ورثته، فلم يتوانَ في الوقوف أمام الولايات المتحدة واتخاذ موقف متوازن في حرب حزيران أو النكسة. تطوّر العلاقات بين البلدين، ولا سيما بعد حرب الأيام الستة أدى إلى عقد اتفاقيات في المجال التجاري والصناعي والفني والصيرفة والمواصلات. السياق التصاعدي دفع وزير الخارجية ميشال جوبير في حكومة الرئيس جورج بومبيدو (1969_ 1974) إلى طرح مشروع الحوار العربي _ الأوروبي، تبعه إعلان الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان (1974_1981) الحوار بين الشمال والجنوب عام 1975. يتناول العزاوي علاقات بغداد مع فرنسا على فترات زمنية متعاقبة. تبدو حقبة الرئيسين الفرنسيين فرانسوا ميتران (1981_ 1995) وجاك شيراك (1995 _ 2007) الأكثر أهمية، نظراً إلى التحولات الإقليمية والعالمية التي شهدتها هذه الفترة.
يعرض الكاتب التعاون النووي العراقي الفرنسي للأغراض السلمية. ويحيلنا على بدايات اهتمام العراق بالطاقة النووية التي بدأت مع إصدار رئيس الوزراء في عهد النظام الملكي نوري السعيد قراراً بإنشاء مؤسسة قومية للطاقة النووية عام 1956. تَلا هذه الخطوة شراء حكومة الرئيس عبد الرحمن عارف عام 1968، مفاعلاً للبحث التجريبي من الاتحاد السوفياتي السابق مخصصاً للأبحاث العلمية. تُرجم التعاون في مجال الطاقة النووية بين العراق وفرنسا بتوقيع اتفاقية عام 1975، تعهدت باريس بموجبها تزويدَ بغداد بمركز للأبحاث النووية مزود بمفاعلين يعملان بوقود اليورانيوم المخصب وأطلق عليهما اسم «تموز 1» و «تموز 2» تيمناً بالشهر الذي تسلم فيه حزب «البعث» السلطة. هذا التعاون أدى إلى تصعيد الحملات الإعلامية من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل بدعوى العمل على إنتاج القنبلة النووية. في حزيران عام 1980 اغتالت تل أبيب عالم الذرة المصري يحيى المشد الذي كان يعمل ضمن الفريق العراقي في المركز النووي، وبعد عام نفّذت غارة جوية دمّرت أجزاءً من المفاعل الذي تعرّض أيضاً لضربات عسكرية أميركية عام 1991 خلال حرب الخليج الثانية.
يرى العزاوي أن العدوان الإسرائيلي على المنشآت النووية العراقية أتى نتيجة عوامل عدة تتخطى الجانب الأمني. العامل الأول، التوجس من التطور التكنولوجي في العراق الذي سيؤدي إلى واقع اقتصادي جديد. والثاني، إظهار قدرة تل أبيب على الوصول إلى الأهداف العربية في العمق، والثالث، امتحان السياسات والموقف الدولي من الصراع العربي _ الإسرائيلي. وأخيراً، هناك عامل له بعد سياسي داخلي يرتبط بتحسين فرص مناحيم بيغن بالفوز في الانتخابات آنذاك.
يوثّق العزاوي للتعاون العسكري الفرنسي _ العراقي، واتفاقيات عقود التسلح التي نتجت منه وانعكست بدورها على واردات العراق من الاتحاد السوفياتي.
اندلاع الحرب العراقية الإيرانية (1980_ 1988) أو حرب الخليج الأولى، وضع باريس أمام الامتحان الأصعب. ارتأت التزام تنفيذ تعهداتها بتزويد العراق بالأسلحة، إلى جانب المساعي السلمية لوقف نزف الاقتتال الذي دام ثماني سنوات وكلف البلدين خسائر بشرية واقتصادية ضخمة في ظل توجّس خليجي من تصدير الثورة الإسلامية. يعالج العزاوي موقف فرنسا تجاه غزو العراق للكويت (2 آب 1990) وما ترتب عليه من نتائج إقليمية ودولية آلت إلى تحالف دولي عسكري ضد العراق عام 1991. حاولت باريس في البداية تبني رؤية مستقلة في مواجهة واشنطن، يعيدها الكاتب إلى دورها في المنطقة ومصالحها العراقية والخليجية، غير أنها أخذت تنساق تدريجاً وراء الولايات المتحدة.
يضعنا الكاتب في السياق التآمري الأميركي على العراق الذي مهّد لاحتلاله عام 2003 ضمن أكذوبة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل. واستند بذلك إلى وثائق أميركية يعود بعضها إلى عام 1989، تؤكد أن رئيس هيئة الأركان المشتركة في واشنطن الجنرال كولن باول طالب العسكريين الأميركيين بتغيير بؤرة التخطيط الأولي للقيادة المركزية من الزحف السوفياتي القادم من القوقاز وآسيا الوسطى نحو الخليج، بهدف الرد على تهديد إقليمي من داخل المنطقة. في أواخر الثمانينيات، كان التهديد المرجّح هو العراق بعدما أنهكت إيران، فأصبح السيناريو العراقي محور تخطيط القيادة المركزية. رفضت فرنسا استعمال القوة العسكرية وسلكت طوال فترة الإعداد الأميركي الأحادي لحرب الخليج الثالثة، طريق التفاوض وطرح المبادرات عبر مجلس الأمن الدولي، غير أن محاولاتها باءت بالفشل. تغطّي الدراسة فترة زمنية ممتدة على 35 عاماً. بذل المؤلف جهداً للإحاطة بأبرز المحطّات التاريخية التي طبعت العلاقات بين الدولتين. علاقات غلب عليها طابع المد والجزر فرضته التحولات الكبرى في 1980 و 1991 و 2003، وما نتج منها من اضطرابات وحروب وضعت العرب في قلب الإعصار والرهانات الخاطئة.