نضج جو قديح كثيراً منذ مسرحيته الأخيرة. أستاذ المسرح وتلميذ أحد عمالقة المسرح اللبناني الراحل جلال خوري، بات يعدّ العدة فعلياً ليقدّم مدرسته الخاصة في المسرح «الفردي». هذا النُضج نراه في مسرحيته الجديدة «أم الكل» التي تنطلق عروضها غداً في «مسرح الجميزة»، لتقارب «الثورة» اللبنانية بطريقة قديح الفردية الساخرة. للمرة الأولى ربما، يلعب قديح دوراً أنثوياً، مجسداً شخصية امرأة مسنّة يحلو له أن يسميها «أم الكل».يعرف قديح من أين تؤكل الكتف مسرحياً، كيف يجذب جمهوره ويبقيه طيلة ساعةٍ كاملةٍ مسمّراً لحكايا تلك الجدّة التي ترى الثورة على طريقتها. يقول لنا: «بدأت الفكرة حين كنت أجلس مع زميلتي وصديقتي سولانج تراك وحدّثتني عن جدّتها وقلّدتها أمامي. من هنا كانت بدايات الشخصية، لاحقاً مزجتها مع شخصية من حياتي وهي هنرييت بستاني، زوجة إميل بستاني (قائد الجيش اللبناني بين عامَي 1965-1970)». ويضيف: «كتبت المسرحية على وقتٍ طويل. في البداية، كتبت نصاً، ثم تكاسلت بعض الشيء، لكنني عدتُ وتشجعت، فكتبت جزءاً ثانياً، ثم عدتُ وكتبت جزءاً آخر، وسرعان ما تركته. كتبت أكثر من 70 صفحة لم أستعمل منها أيّ كلمة في المسرحية». أوقف قديح العمل على مسرحيته، مع بدء الأحداث في لبنان، إذ شعر بأنه لن يقدّم أيّ عمل مسرحي خلال هذا العام، بعدما كان قد حجز «مسرح مونو» لتقديم عرض كعادته في شتاء كل عام. لم يحدث الأمر، «قلت السنة مش رح أعمل مسرح». لكن سرعان ما عاد للغوص في شخصية «أم الكل» بعد «شهرين ثورة» بحسب توصيفه، مضيفاً إلى الشخصية التي كتبها قبل «الثورة» أحداثاً أحسّ بها، شاهدها وعاينها خلال تلك الأيام التي نزل فيها إلى ساحات الاعتصام. يقول: ««أم الكل» لم تكن في البداية عملاً مونودرامياً، بل كانت هناك العديد من الشخصيات، لكنني سرعان ما ارتأيت أن يكون العمل فردياً». تحكي مسرحية «أم الكل»، بحسب ما شهدناه خلال التدريبات، حكاية مسنة، تعيش وحيدةً مع ذكرياتها، حتى لحظة اشتعال الاحتجاجات في لبنان. هنا تتغير حياتها، تصبح جزءاً من الحراك الشعبي، تنزل إلى الشارع، وتخوض غمار تجارب جديدة لم تكن قد عايشتها من قبل. هناك أبعادٌ تاريخية يقاربها قديح عبر هذه الشخصية التي يلعبها طيلة ساعةٍ تقريباً على الخشبة. لعبة الضوء والصوت يقاربها مع الشخصية، مع ديكور خفيف جداً يقارب المسرح الإغريقي أو البريشتي لا أكثر، إذ لا ديكورات مبهرجة، أو تفاصيل كثيرة. هنا الشخصية هي الحدث والحديث الرئيسيان. تكفي الكرسي الذي تجلس عليه البطلة، مع ضوء مسلط عليها، وطاولة بالقرب منها كي يكون الحدث كاملاً والعمل واضحاً للمشاهد. «هناك في المسرحية رسالة خفية، قد لا يتنبه لها البعض، هي رسالة حول ضمان الشيخوخة» يعلّق قديح، مضيفاً: «في الغرب، حين يبلغ الإنسان عامه الـ 64، يبدو كما لو أنه وُلد من جديد، إذ يذهب في رحلات حول العالم، يمارس طقوساً جديدة في حياته، هناك أنظمة وقوانين ودولة تحميه. أما في بلاد الشرق الحزين، فلا أحد يهتم بـ «الختيار». هنا أتحدّث عن سيدة مسنّة، لكنها في الوقت نفسه «أم الكل» حارسة الحكايا وراويتها». تقنياً يبدو العمل متناسقاً. كعادته، يضمّ قديح في فريقه «سلاحه السري» سولانج تراك، الممثلة والمساعدة والمتابعة لجميع تفاصيل العمل، «نعم سولا هي قلب العمل الحقيقي» يقول قديح. الممثلة اللبنانية التي عرفها الجمهور في أعمال تلفزيونية ومسرحية عدة (من بينها مسرحيتان مع قديح) هي كل العمل اللوجستي والتقني، فيما يساعدها في ذلك فريدريك أبي خليل ومحمد فرحات على الإضاءة والتقنيات. يكشف لنا قديح: «في البداية، كنت أريد أن أضع الجمهور معي على المسرح، لكن سولا منعتني لأسباب تقنية. لذلك قررت أن أقسم الصالة إلى قسمين، مثلما قسم البلد إلى قسمين»، مضيفاً أنه سيضع حائطاً من الكرتون أو الخشب وسيتم رسم العلم اللبناني عليه، «أنا مبسوط إنه عملنا شي، يمكن نعرض أسبوع، يمكن أسبوعين، حسب البلد، وحسب أديه في جمهور، لأنه الوضع بالبلد مش واضح، إحنا عايشين كل يوم بيومه». «أم الكل» عمل أراد قديح من ورائه، أن يقول رأيه بكلّ ما يحدث حالياً في لبنان، قد لا يوافق الجميع على آرائه السياسية، لكن ما لا خلاف عليه هو إصراره على إنجاز عمل بدون دعم ولا رعاة، انطلاقاً من قناعته بأنّ المسرح هو رئة لبنان الفنية الوحيدة التي لا تزال ذات مستوى عالٍ.

* «أم الكل»: ابتداءً من الغد ــ «مسرح الجميزة»، بيروت ـ للاستعلام: 76/409109