تحتلّ قصة أحمد بوزفور (1945) موقعاً مرموقاً في عمارة الأدب المغربي. ورغم أنّ الأمر يتعلق بـ«كارصونيير» فقط، إلّا أنّها تظلّ الأكثر استدراجاً لفضول الرواد والزوار والمتلصّصين على الطابق المخصّص للقصة القصيرة من العمارة. هناك عدد من الشقق الفسيحة، حسنة الإضاءة، باذخة التأثيث في هذا الطابق، لكن «كارصونيير» بوزفور المتقشفة، ذات الألوان المخاتلة والصِّباغة المائعة والأثاث «الغابر الظاهر» تظلّ الأكثر إثارة وجذباً لأصدقاء القصة بين شقق هذا الطابق. رغم أنّها شقة صغيرة من دون باب. شقة بنافذة يتيمة مفتوحة «على الداخل». كنت في غَمْراتٍ متواشجةٍ حين «رأيتُهما معاً» في معرض الكتاب: بوزفور ومجموعته الجديدة. للتو أعلنّا في مراكش القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العربية وأمامي روايات القائمة القصيرة عليَّ أن أُتمَّها قبل إعلان الجائزة في أبو ظبي في نيسان (أبريل) القادم، مثلما كنت في غمرة الإعداد لحلقات جديدة من برنامج «بيت ياسين» بما يقتضيه ذلك من قراءة أعمال متنوعة لضيوف من مشارب أدبية وفكرية شتَّى. ثم هناك الكتب التي نخرج مُحمَّلين بها إثر كل جولة في المعرض: مقتنياتٍ وهدايا. لكنني تركتُ كل هذا جانباً حين رأيتهما معاً. فصدور مجموعة قصصية لأحمد بوزفور حدثٌ أدبي كبير، لذا اعتبرتُ قراءة مجموعته أولويّة لا تحتمل التأجيل.
تساءلتُ بدءاً، ومنذ العتبة: أعرف أحمد بوزفور أستاذاً سابقاً للشعر الجاهلي في الجامعة، عاشقاً للشعر القديم، فما الذي قاده إلى شاعر مصري حديث لا يُصنّف بين كبار مُجايليه هو كمال الشناوي؟ لعلها الأغنية... لكن بأي صوت وبأية حنجرة؟ محمد عبد الوهاب؟ عبد الحليم حافظ؟ أم نجاة الصغيرة؟ ثم ما الذي شدَّ القاص إلى القصيدة/ الأغنية: الحب أم الكذب؟ أم هما معاً؟ المهم أنّ العنوان كان «إني رأيتُكما معاً» («دار توبقال للنشر»، الدار البيضاء 2020). وللقارئ أن يُراوح بين العين الكاذبة والدمع الجسور، بين الكذب المبارك والظن الملعون.
لكن الأغنية كانت عن الحب، والكتاب أيضاً. بل إنه كتاب عن الحب والموت معاً. الجزء الأول يضم ثماني قصص عن «الحب». والجزء الثاني عنوانه «الموت» يتضمن إحدى عشرة قصة. القصص قصيرة جدّاً، فالكتاب كلّه جاء في 90 صفحة. ومنذ القصة الأولى، نلاحظ وَلع الكاتب بالتكثيف والاختزال وشغفه بالإيجاز، حتى أنه لم يتردّد في قصته الأولى مثلاً في اختصار «تاريخ الحب» في صفحتين وسطرين. لكن ما إن نُتِمَّ القصة الأولى حتى نكتشف أنها عن الموت. أغلب قصص القسم الأول كانت عن الموت رغم أنها تتخفَّى في إهاب الحب، تتستّر وراء قناعِه. لنقل إنها قصصٌ عن «الحب المُفضي إلى الموت».
في «تاريخ الحب»، مرت ليلى الأخيلية بقبر حبيبها القديم توبة. حيّته فنفر من جانب القبر طائر جفّل راحلتها، فسقطت من فوقها جثة هامدة. في «القنفذ»، قتلت المعشوقة الغامضة عاشقها ثم أخاه، فيما صلبَ الكاتبُ الأبَ في السطر الأخير وتركه في عراء النهاية ينتظر دوره. الحب قاتل، والقتلى كُثرٌ في مجموعة بوزفور الأخيرة: «أنا الأب الميت والأم الميتة، وأبُ الصَّدِّيق أنا، وأنا الصَّدِّيق. وأنا القبر».
«الناس قبورٌ»، يزعم السارد، لكن ماذا عن القصص؟ أليست قبوراً هي الأخرى؟ وإلّا، فكيف تحتملُ حبكاتُها الهشّة كل هذا الموت؟ وكيف لا تنوء بكلّ هؤلاء الموتى؟ القصص قبورٌ تملأ رَحْباً يطير في سماواته غراب أبيض. هل قرأ بوزفور يوماً لمحمد صلاح الدين الفرجي؟ أما أنا فبعدما قرأت قصة «الغراب الأبيض»، عدت إلى مكتبتي باحثاً عن مجموعة الفرجي العتيقة، وكانت بنفس العنوان. لم أجد المجموعة القديمة ولا تذكرتُ موضوعها، لكنني أحسست أن القصة المغربية مثل الشّجا يبعث الشّجا، وهذا كله قبر مالك، أو لعله قبر ملك؟
«ليس ضرورياً أن تكون ملكاً حاكماً. قد تكون ملكاً على نفسك.. وأغلبنا عبيدٌ لنفوسنا». وتضيف قصة بوزفور: «الغراب الأبيض موجود. لكنه لا يظهر هنا إلا مرة كل مائة سنة، ولا يظهر إلا لشخص واحد». صدقت نبوءة العرّاف إذن، وها هو الغراب الأبيض يلوح من جديد - هنا - في قرن جديد، هو الأول من الألفية الجديدة.
لكن زهرة زيراوي ستظهر هي الأخرى في حلم القاص، أو إذا توخَّينا الدقة في حُلم قصته. يعرف أحمد بوزفور من دون شك أن صاحبة «نصف يوم يكفي» رحلت وفي نفسها شيء مِمَّا.. أقصد شيئاً مِن «ما». «ما» الهشة، المتلعثمة، المرتبكة، المترددة، الخجولة والمخاتلة أحياناً. فهل استعارت قصتُه «ما» من زهرة زيراوي تلك البذرة؟ جاءت قصة «ما» لأحمد بوزفور في ثلاث صفحات فقط، تبدأ بـ«شيء ما»، ثم «شخص ما»، «فكرة ما» وأخيراً «أنا ما» حيث يقول السارد: «كأنني لستُ شخصاً. كأنني مجرّد كلمة. ومكتوبة بقلم رصاص. من ينقذني من هذا الخوف المزلزل؟ من يأخذ ممحاة.. ويمحوني؟». تماماً كما كان عليه الحال في «ققنس» وفي نصوص قصصية أخرى لبوزفور، أحداثٌ كثيرة في مجموعته الجديدة تحصل في الحلم، أو في منطقة التّوق. فالأحداث إما محلومٌ بها أو مَتوقٌ إليها: «أمسحُ الكَلَف عن وجه القمر فيصير أجمل وأضوأ. أجعله صاحبي وأسميه «منير». ثم نظر إليّ وقال: مثل اسمك. - كيف عرفت اسمي؟ - تصوّرتُه».
أشياء كثيرة تحدث في الحلم في هذه المجموعة: «تلك الليلة رأيتها في الحلم»، نقرأ في «سُكَّر اسمه زينب». «فجاءني في المنام بلحيته البيضاء وجلابته البيضاء وابتسامته البيضاء مثلما حدث في «يا حمام». «كانت تحلم بأنها حامل»، ثم «قبل أسبوع حلمت أنها فقدت طفلها في حادث» نقرأ في «ذلك الولد الغريب». ولأن الحلم منطقةُ التباسٍ بامتياز، تبدو الوجوه غائمة والملامح مشوّشة والشخصيات كأنها أطياف. نقرأ في «نلتقي حيث نفترق»: «وفجأة رآها. تلوبُ حوله كحلم مراوغ وصامت تراه ولا تلمسه. فقط حفيف التّنورة وبياض الابتسامة ونداوة الشفتين. هل هما شفتان؟».
يكتب: «هذه الحياة اسمها الذهاب. ونحن لا نعيش. نحن فقط نذهب»


في الحلم يصير الالتباس هو الأصل. كل شيء هنا مُشتبَهٌ في أمره وعليه غبار كثيف. لا شيء محسوماً. «فالشفتان، هل هما شفتان؟» و«الشجرة تترنح. أية شجرة هذه التي تترنح؟». ثم تتداخل الأطياف وتتعانق الكائنات وتتواشج حتى «رأيتُني تلميذاً في القسم، مع عدد من التلاميذ الأشجار. وكانت معلمتُنا غيمةً، وتدرِّسنا النحو».
في مجموعته الجديدة، أخلص بوزفور للحلم مادةً للكتابة. لكنه لم يكن يدوّن أحلامه ولا كان يُحبِّر رؤاه، بل كان يحلم مباشرة على الورق: «اكتشف مع الوقت أنه يحلم وهو يكتب». هكذا بخفة ونزق وجرأة واستهتار. أحلامه على الورق تبدو أشبه ما تكون بعروض التعرِّي فوق منصة من أثير تعلو غيمةً تحيط بها الأطياف والأشباح وأجسادٌ من عِهْن لشخصيات ليست في النهاية سوى أسماء سمّاها الكاتب وتركها تذهب وتذهب. وهو يراقب ذهابها وانمحاء أسمائها، ويكتب ويحلم: «هذه الحياة اسمها الذهاب. ونحن لا نعيش. نحن فقط نذهب».
حين استضافت كلية الآداب في «جامعة القاضي عياض» في مراكش أحمد بوزفور في بداية التسعينيات من القرن الماضي وأنا طالب فيها، وسمعته يقرأ قصته الجميلة «صدر حديثاً»، عدتُ إلى البيت كالمُسرنَم، ومباشرة وجدتُني أستلهمُ لعبته القصصية وأستعيدها بغبطة وحماس في «الرأس القاحل» التي نشرتها في مجموعتي الأولى «من يصدّق الرسائل؟» قبل أن أُسقِطها في ما بعد من مختاراتي «فرح البنات بالمطر الخفيف» لأنّ ريحاً «ما» كانت قد هبّت من قصته على قصتي. واليوم بعدما أنهيتُ مجموعة بوزفور الجديدة، شعرت بألم حقيقي لأنني لم أكتب قصة من زمان. هكذا هي القصص الجميلة، تُسعدك وتوجعك وتحرِّضك على الكتابة. فعُد إلى قصتك إذن وواصل الكتابة. هل تسمعني؟ عد إلى قصتك. لكن:
«- هل أنت هنا؟
- لا. لستُ هنا. أنا هناك.
- عفواً. حسبتُك هنا...»

* شاعر وإعلامي مغربي