بعدما نقلت «دار التنوير» رواية إيفان كليما «حبّ وقمامة» إلى لغة الضاد للمرّة الأولى العام الماضي، ها هي تقدّم روايته «لا قدّيسون ولا ملائكة» (1999) إلى المكتبة العربيّة (ترجمة إيمان حرز الله). في «لا قديسون ولا ملائكة» يبدو كليما (1931 ـ الصورة) الرّاوي متخفّياً خلف شخوصه. يترك الروائي التشيكي لهم حرية للتعبير عن أنفسهم، وفسحة لطرح تساؤلاتهم التي مهما تشعبت، تظلّ تدور في فلك سؤال بسيط: «لماذا أنا ما أنا عليه؟». إنهم ليسوا قدّيسين ولا ملائكة، هم أناس من لحم ودم يروون سيَرهم التي يعثر فيها القارئ على نفسه في أي زمان أو مكان.تطلعنا الرواية على حياة ويوميّات ومخاوف ثلاث شخصيات تعيش في براغ خلال النصف الثاني من القرن العشرين. خلف هذا السرد، يحضر إرث الشخصيات الذي قد يكون سبباً وراء ما هي عليه اليوم. من خلال الأم وطبيبة الأسنان كريستيانا، يأخذنا كليما إلى الماضي. كريستيانا ولدت يوم وفاة ستالين، أي في التاريخ الذي شكّل كارثة لوالدها الذي أمضى حياته مؤمناً بأن الشيوعيّة هي الخلاص. كيف لا وهي التي أنقذته من بطش النازيّة، بعدما راحت جدّتها لأمها ضحية للمحرقة رغم تخلّيها عن يهوديّتها منذ زواجها؟

كريستيانا المثقلة بقلق موروث يرجع إلى أيام الديكتاتورية التي منعت عنها أفراح الطفولة، تحكي عن والدها: «كان كل عام، يوم عيد ميلادي، يشعل شمعةً لذكرى قاتلٍ لم يره أبداً. ويشتري القرنفل الأبيض ليضعه أمام تمثاله النصفيّ القابع على مكتبه. لم يشترِ لي زهوراً سوى ثلاث مرّات تقريباً في حياتي. وبالطبع كانت قرنفلاً لأنّها زهور الرّفاق على نحوٍ ما». لكن قلق كريستيانا سيعزّزه قلق إضافي على ابنتها جانا المتمرّدة على كل السلطات في زمن الحرية التي عرّضت البلاد للفوضى، وجعلت المخدرات تباع على أبواب المدارس. حين تتسلّم جانا دفّة السرد، ستكشف عن تساؤلاتها، ليكون السؤال الأهم: «ماذا يعني أن تعيش بطريقتك في عالم يغصُّ بمليارات من البشر؟». سؤال سيفتح أمامها الباب لإشكاليات وجودية بلا نهاية. هذه التساؤلات لا تبدو بعيدة أيضاً عمّا يطرحه الشاب الثلاثيني جان الذي كان تلميذاً لوالدها المريض حالياً، قبل أن يغرم بوالدتها. هل وجدت كريستيانا هروباً من واقعٍ مثقل بالماضي عبر الالتصاق بشاب يسعى إلى المستقبل؟ جان العامل في مؤسّسة تسعى إلى توثيق جرائم النظام الشيوعي الذي أهدر شباب والده وسجنه لتسعة أعوام، سيعلن «الحقيقة أنّ الطريقة الوحيدة للبقاء هي اللامبالاة بالأشياء التي نكرهها، والتي تزعجنا في البشر والعالم». بمهارة عالية، ينسج كليما ثلاثة مستويات من السرد على لسان شخصياته، متخليّاً عن حبكة تمسك القارئ من يده وتسير به وفق أحداث مرسومة بدقة نحو نهاية مفاجئة. هكذا، يروي أحداث الزمن والتاريخ، عبر تفاصيل الأبطال اليومية. تاريخ طويل من النازية والفاشية والثورة والحرية، يترك آثاره على أجيال متعاقبة وجدت نفسها متورطةً في الحياة رغماً عنها. هي رواية الحياة بعيداً عن الحدث. روايةٌ لا تعدك بالنهاية، وإنّما تشغلك بالراهن الذي يبدو كأنّه لن ينتهي. بالتأكيد، لا يكتب كليما عن الربيع العربي، وليس للثورة السورية حضور في روايته. لكن لا يمكن للقارئ العربي أن يخوض غمار الرواية من دون أن يشعر بأنها رواية راهنة. ولعلّ في ما يقوله جان مثال بسيط على ذلك «ثمّ ثورة _ أو شيء أعلن عنه بوصفه ثورة _ هبطت من العلا». هل هو الفارق الحضاري الذي يجعل واقعنا اليوم شبيهاً بما يرويه كليما عن بلده قبل نحو ربع قرن؟ هل ستنتج الثورات العربيّة جيلاً مشابهاً يردّد في لحظة مراجعة «إنّ الناس يتوقون للتغيير على الدوام تقريباً. ما إن تسود الحالة المزاجية للتغيير حتّى تتملكهم الحماسة واليقين المنتشي بأنّ التغيير سيمنح حياتهم فجأة معنى ما غير متوقّع. ومع ذلك، ولأنّهم يتوقّعون التغيير من الخارج، ينتهي بهم الأمر بصفة عامّة مخيّبي الآمال»؟