«كم مرة شاهدت الفيلم؟» كان هذا السؤال الأول الذي وجهته لأحد الأصدقاء خلال حديثنا عن فيلم ديفيد لينش الجديد «ماذا فعل جاك؟». في العادة، أفلام لينش تشاهد أكثر من مرة، فكيف إذا جاء فيلمه الجديد كهدية مفاجأة من البداية حتى النهاية من دون أن نتوقعه، ومدته سبع عشرة دقيقة، ومتوافر على نتفليكس منذ 20 من الشهر الجاري يوم عيد ميلاد المخرج الأميركي الـ74. جواب صديقي كان متوقعاً، بخاصة أنه عند انتهائي من مشاهدة الفيلم، أعدت المشاهدة من دون تفكير مراراً.منذ ما يقرب أربعة أعوام، دارت شائعة حول تعاون محتمل بين ديفيد لينش ونتفليكس، ولكن لم يكن هناك شيء مؤكد. في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017 خلال معرض لينش «الهواء هو النار» الذي أقيم في «مؤسسة كارتييه للفن المعاصر» في باريس، عرض الفيلم لمرة واحدة ولم يشاهده كثيرون، ثم وُضع في الأدراج حتى يوم الاثنين الفائت، عندما قدمته نتفليكس لنا وكان هذا التعاون الأول بينهما. علماً بأن آخر أفلام لينش الروائية الطويلة كان Inland Empire عام 2006. منذ ذاك الحين وهو يقدم أفلاماً قصيرة ووثائقيات حتى عام 2017 عندما عاد بموسم جديد لمسلسل «توين بيكس»، واليوم يقدم لنا هذه الهدية «ماذا فعل جاك؟».
كل شيء مثير للسخرية في «ماذا فعل جاك؟»، وفي بعض الأحيان مضحك للغاية. مزيج من أفلام الـ noir والكوميديا السوداء والموسيقى أعادنا فيه لينش إلى كلاسيكيات الأفلام السوريالية بصورة الأبيض والأسود وبصوت فيه هسهسة، يشبه كثيراً فيلمه الأول «إرايزرهيد» (1977).
إذن، من هو جاك؟ وماذا فعل؟ جاك كروز قرد يتمتع بقدرة على الكلام. أنيق ومشتت ومراوغ ببدلة جميلة وصوت رفيع. يجلس في كافيتريا محطة القطار، منتظراً قهوته. فجأة، يدخل لينش، ويجلس مقابله ويبدأ الحديث بينهما. لينش هو محقق. ومع استمرار المحادثة، يصبح واضحاً أن لينش يحقق مع جاك الذي قد يكون أو لا يكون مذنباً بارتكاب جريمة قتل شخص يدعى ماكس. ودافع القتل هو دجاجة تدعى توتاتابون كان جاك متيّماً بها. هل ما فعله فيه شيء من الغرابة؟ لم تبدأ الغرابة بعد.. مع وصول القهوة (هي واحدة من علامات لينش المميزة في أفلامه، يحبها جداً وكان تقريباً يشرب 20 فنجاناً في اليوم حسب قوله). يستمر الحديث، ولكنه يتخذ منعطفاً أكثر غرابةً بسبب الأسئلة والأجوبة التي تكون تارة فلسفية، وطوراً مضحكة، وتارة عبثية لتبدأ القصة بالوضوح أكثر فأكثر.
نحن أمام عمل يوصف بأنّه «بيور لينش». يحقق ديناميكية بين العبث والعاطفة طوال الحديث وطوال مدة الفيلم. العبث متمثل في حيلة خلق القرد المتكلم، التي يمكن أن تكون مشتتة بعض الشيء، لكن لا يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى يبدو هذا الشيء السوريالي طبيعياً جداً. والعاطفة تكمن في تفسير القرد للحب، خاصة في الدقائق الأخيرة. يبدأ الفيلم كلغز، ورويداً يصبح استهزاءً، خاصة أن الشخصيتين تتكلمان مع بعضهما بالاستعارة (قليلة هي الأسئلة المباشرة). تستهزئان بأجوبة بعضهما التي تكون أحياناً بعيدة كل البعد عن السؤال، لكنها قريبة جداً في الوقت نفسه، فنستغرب الجواب ونضحك، ثم نبحث عن العلاقة بينهما ونجدها: إنّه أسلوب لينش في الكتابة.
يشبه الفيلم الأحلام الغريبة، تماماً كما نتوقع من لينش. مجموعة من الحوارات التي تتألف من جمل قصيرة تعبّر عن أفكار أو أمثلة، ليست بالضرورة مترابطة كما ذكرنا، لكنه يقدمها بطريقة موازية بموهبته الفذة في ترتيبها لتأتي واضحة ولو كانت غريبة عن بعضها. هذه الأفكار مناسبة تماماً للجو العام للفيلم، في المشاهد المقطّعة بحدة، تارة على وجه لينش، وطوراً بشكل قريب جداً من وجه جاك. أفكار لينش مجردة، وهو يعرف تماماً كيف يقدم هذه الأفكار بطريقة فكاهية تولّد العبثية في بعض الأوقات. لأن لينش يفهم السينما على أنّها فن تجريدي، فهو يشرك فيه المشاهد لأنّ أساس رؤيته هو أن الجمهور جزء من العمل السوريالي. وهذا ما يؤكده الفيلم، وعبثية الموقف، وفكاهة الحوار، وغرابة الجو، والنهاية الأغرب تمر علينا كأننا نشاهد شيئاً واقعياً نصادفه دائماً في حياتنا اليومية.
سوريالية لينش واقعية جداً، على الرغم من أن هذه الفكرة والجملة غير متجانسة ويمكن ألا تكون مفهومة، لكن لا يمكن التعبير عن الفيلم إلا بها. القرد المتكلم، المنتظر للقطار المتأخر، المتيّم بدجاجة والمتهم بجريمة قتل كانت واقعية جداً حتى تتر النهاية. أقنعنا لينش بها رغم سورياليتها. هذا شيء لا يمكن تحقيقه إلا إن كان اسمك ديفيد لينش.