يحوِّرُ عبد الرحمن قطناني (1983) لغة اللجوء إلى لغة فنيّة. لكن بين التحوير والحوار رحلة «عصف فكريّ» ـــ عنوان معرضه الجديد ـــ طويلة، رحلة الألف إلى الياء، فهل يصبح معها الحيّز المكانيّ للمنفى القسري أو مخيّم اللجوء نزهة فنيّة و... موجة أسلاك شائكة؟ أم أكثر؟ في المساحة المتحفيّة لـ «غاليري صالح بركات»، بنى الفنان الفلسطينيّ الشاب «عاصفة أفكاره» على شاكلة تجهيز سينوغرافي مصغَّر، يُحاكي مخيّماً للاجئين الفلسطينيين في لبنان. كان هذا البناء التجهيزي/ المشهدي أساسياً في المعرض. مساحة مرصوفة بالمرايا تهدي الزائر حيّزاً من الانغماس البصري في السينوغرافيا، بل التنزُّهَ بهدوء في المشهديّة وتأمّلها. يجوز تقسيم المعرض إلى أربعة أقسام: بورتريهات على طبقات براميل النفط الدائرية، فأعمال تركيب وتجميع، ثم تجهيز سينوغرافيّ/ مشهديّ كبير على شاكلة زواريب مخيمِ لجوءِ ومتاهاتِه... ثمَّ تقابل الكُلَّ: موجة.
معادلات من الواقع
لو لم يكن الاحتلال، لما كان اللجوء، ولا المنفى القسري ولا الشتات. وللدقة: لو لم يغتصب الصهاينة الأرضَ مُحتلّين، لما وجدت مخيمات لجوء للفلسطينيين، ولا كان ثمّة نفي قسريّ داخل الأرض وخارجها ولا شتات.
للدقة أكثر: لولا الاحتلال الصهيوني ومنظومته ومشروعه، لما نُفيَت فلسطين بذاتها عن ذاتها. قيام السبب يحتّم النتيجة. معادلات بسيطة تستند إلى الواقع، واقع من الحياة مُعاش. هنا يحضُرُ قول آلان كابرو (1927-2006): «الحياةُ أهمّ بكثير من الفن». بهذا القول، يختصر الفنان الطليعي الرائد مفهومه وخياره الذهاب أبعد من المساحة المسطحة، إلى حدود الأداء والتجهيز، والتجميع والأهم: إلى «الحدث». نستحضر هنا قول كابرو، لا للمقارنة إطلاقاً، فأعمال معلِّمٍ كَكابرو أسَّسَت لنمط فنّي وتيار كبير يمتدُّ ويتمدَّد حتى اليوم. تيارٌ أثّر مباشرة على تاريخ الفن المعاصر الذي لحقه. لكننا إذ نستحضر القول هذا، فللإشارة إلى أنّ الواقع الحياتي المُعاش هو ما يقود أوركسترا الفن، وليس الفن سوى تنويعات على مقام أساس، هو مقام الواقع: واقع الحياة المُعاش.
إلى أي مدى يقودُنا عمل عبد الرحمن قطناني من الواقع وإليه؟ من مخيّم اللجوء.. وإليه؟ أو أبعد؟



على بعد 30 دقيقة عن «الواقعيّ»
معرض عبد الرحمن قطناني، يُتيحُ للرائي حيزاً ما من التفاعل، أو حتى شكلاً من أشكال الانغماس. لكن هل هو انغماس مع الواقع الأساسي المُراد نقله، أي مخيّم صبرا للاجئين الفلسطينيين في لبنان، حيث ولد قطناني (وهو يَبعُد مسافة 30 دقيقة عن مكان العرض «الفنيّ»)؟ وعَبْرَه ربّما، مع كلَّ مخيّمات اللجوء؟ أم انغماس في إطار مكانيّ فنيٍّ مصغَّرٍ ــ محَوَّرٍ بِبُعدٍ جماليّ ــ عن الواقع المُعاش ذاك؟ هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنَّ كلّ من عاش في مخيم لجوء يوماً، وكلَّ من زار مخيَّم لجوء فلسطينيّ ـــ أقلّه على الأرض اللبنانيّة ـــ سَيَرى هذا الأنموذج الفنيّ لقطناني أنيقاً جداً، لا بل نظيفاً يكاد يكون مَرْيَماً بلا دنسٍ بالنسبة إلى الواقع المأزوم داخل مخيّمات اللجوء. فالعمل هذا أولاً وأخيراً: فنّي. والأكيد أنَّ الترميز حاضرٌ أكثر من التصريح عند قطناني رغم ما قد يتهيّأ للوهلة الأولى عكسياً عند الرائين. فالنسق التشكيليّ الذي عُرِفَ به عمل قطناني على مدى السنوات الأخيرة، من تركيب وتجميع لمواد مختلفة، أوّلها ألواح الزينكو (الحديد المطعّج المموّج) وحدائد براميل النفط والخشب، مع خياراته اللونيّة الفوفيّة/ الوحشيّة: من أصفر-أوّليّ وأحمر قرمزي كصباغ الزنجفر، أو أزرق نيليّ أقرب إلى صباغ اللازورد... كلها تسمح بقراءة الترميز هذا: تشكيلياً صرفاً، لكيفيّة صهر وصقل قطناني مواده، ثمَّ بسهولة وأريحيّة ومن دون أبعاد، ببنائها في الأذهان مجدداً على مسافة جماليّة شاسعة عن الواقع. فماذا في تفاصيل المعرض وأقسامه المختلفة؟



دوائر النفط
بصوت فضيٍّ وبرتقاليٍّ عالٍ رخيم تنادينا تسع دوائر، فنسابق الدرج نحوها نزولاً، نستعجل خطواتنا لنفك رموز النداء. وإذ هي طبقات براميل نفط، شذَّب منها قطناني بورتريهات لشخصيات مؤثرة برأيه على مسار تاريخ التداول النفطيّ في منطقتنا، تاركاً الفراغ الداخليّ في التأليف يقول خطابه التصويريّ: ياسر عرفات، كارلوس، وأُمراء من منطقة الخليج العربي... عُلّقت الطبقات الدائرية على الحائط لاستقبال الرائين. وكانت بلا شك الخطاب البصريّ الفاصل بين ثلاث مراحل تقنيّة لنتاج قطناني: التركيب والتجميع من جهة، البناء السينوغرافي في الضفة المقابلة، ثم لاحقاً التجهيز.

ظلال الزينكو
نلتفتُ يساراً ونمشي نحو القسم الثاني حيث أعمال من التركيب والتجميع المحوّر إلى أشكال من الحياة اليوميّة، معلّقة أيضاً بشكل مسطّح على الحائط. غالباً هم أطفالٌ يلعبون. ظلالهم كبيرة. ألعابهم بسيطة. يكادون يكونون بلا هموم، أو أنهم يعرفونها ويجيدون الالتهاء عنها (أليس كلُّ الأطفال كذلك؟). التجميع هنا يشير بصراحة إلى أشكال مفهومة وواضحة. كلها «في ظل الزينكو» (الحديد المطعّج المموّج)، «كوننا نعيش في ظلّ الزينكو في المخيّمات، وأشخاصي رح يضلّوا زينكو طالما هِنّي عايشين داخل هذه البيئة وهذا المخيّم (اللجوء)» يقول قطناني. ليس ذلك إذاً على شاكلة تجميع وتركيب لويز نافلسون (1899- 1988) أو بنائيّة فلاديمير تاتلين (1885- 1953) اللذين لا يجوز المرور أمام تجميع وتركيب دون تذكُّرهما، ولا حتّى تركيبات مينورو أوهيرا (1950) رغم أن بعض تجميعات قطناني قد تحاور للحظة ــ بشكل تقني ــ تلك الأعمال الفذّة لأوهيرا التي تعود إلى عام 1995.


إصرار قطناني على رسم صورة وشكل واضح للرائين وإرسال خطابٍ بصريّ يفهمه الكلّ، غالباً ما يأخذ الحيّز الأوسع من طريق خطاب المادة والتقنيّة وبُعدها المفهومي. وفي ذلك يعاكس قطناني كبار التركيبيّين والتجميعيّين في أهميّة إعطائهم الأثير كاملاً للمادّة ــ دون سواها ــ لتقول ما تريد. يسمح لها قطناني فقط بترميز الأوّلي، ليعود ويغلّفها بالشكل الواضح كأشخاص وألعاب وغيرهما. قد تذكّرنا بعض أعمال قطناني هذه أيضاً بتقنيّة خاصة في تركيبات غوردون فاغنر (1915-1987)، فالشبابيك والأبواب الخشبية وغيرها مختلطة مع بعضها، تعطي نكهة شبيهة إلى حدٍّ ما بأيّ تركيب يستخدم الخلطة عينها. يتحاوَرَ بالتالي عملُ قطناني بديهيّاً ــ على المستوى الفنّي الصرف ــ مع التركيبات بلغة غوردون فاغنر. لكن هل عرف فاغنر أبجديّة «الزينكو»؟ الأبجديّة التي تدخل في بنية كل شيء لدى قطناني، وهذا مشهد حقيقي من طفولته: صوت أم كلثوم في الخلفية، عبد الرحمن في حضن والده يسمع الأغنية ولا يفهم شيئاً (لعلّها كلمات صلاح جاهين). ينتهي الاحتفال. يصفِّق الجمهور بحرارة. «وأنا وصغير.. صرت ألخبط! هلأ هادا زقيف واللا صوت المي (المطر) على الزينكو؟» نعم «الزينكو»: أبجديّة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. لن يجيدها إلا أبناء تلك المخيّات بالذات.

أتعكسُ المرايا، «كوكب» البَرَكْسات؟
الوقت سريع وقليل لزيارة واحدة لهذا المعرض. نحاول قطف دقائقه كلّها مكمّلين دورتنا مع عقارب الساعة يساراً، إلى القسم الثالث. هنا عمليّاً المساحة الكبرى في الغاليري، خُصِّصَت بحُكم الحجم للتجهيز البنائيّ، أو السينوغرافيا/ المشهديّة التي ترمز إلى أنموذج مخيّم اللجوء. العمل يقارب الـ 16 متراً وارتفاعه 3 أمتار ونيّف، تاريخ إنجازه يعود إلى عام 2017 وقد عُرض منذ عامين بالضبط في «غاليري ماغدا» في باريس. نرى مجدداً إمضاء قطناني البصري الذي أصبحنا نفهم بوضوح أبجديّته: ألواح الزينكو، الحديد والخشب، مع إضافة مهمّة بِبُعْدَيها المَفهوميّ - التفاعليّ كما التقنيّ - التشكيلي، وهي من خارج عوالم زواريب المخيّم: المرايا. لعبة خطرة بلا شك. فالسير على حبل رفيع بين سهولة استهلاك المرايا واستنباط جديد من المادة عينها، يكاد يكون مهمة بهلوانيّة دقيقة جداً، لن يجيدها إلا من تدرّب عليها طويلاً. المرايا، نعم. عنصر إضافيٌّ يدخل في لعبة قطناني التشكيليّة، لكن ليس بقصد توظيف المادة استيتيقيّاً، بقدر ما نجدها حاضرة لتوسيع المكان وتضخيم الأبعاد، كما لدعوة الرائي بديهياً للانغماس في الأنموذج التجهيزيّ السينوغرافي. وليس هذا الوقت لاستعادة الجزء الهام من تاريخ الفنون البصريّة المتعلّق بتقنيات المرايا وتوظيفها، ولا لتذكّر التجهيزات البنائية في تاريخ الفن لاستنباط العِبَر.


لكنَّ السير في المشهدية يُجبرنا أن نعود تلقائياً بالذاكرة إلى عرّاب التجهيز والبناء، المعلّم الكبير كورت شويترز (1887- 1948) والمِرْزْبَاوْ الخاص به، الذي أعيد بناء شاكلة عنه في «متحف بيركلي للفن»، في محاولة رائدة وممتازة للبناء الفنيّ التجهيزي. طبعاً ليس قطناني بمطالَب أن يُكَوِّن نماذج بهذه الضخامة، لا من حيث المفهوم والعمق الفنيّ، ولا من حيث دقة المادة وتطوّر تكوينها. لكننا نسأل بتفاؤل ــ بما أننا نواجه حالة بناءٍ تجهيزيّة ــ ماذا أو كيف يا تُرى سيقدم لنا قطناني جديده في المراحل القادمة؟ نكمل المسير في زاروب التجهيز/ المشهديّة. زاروب ذو مسارٍ أنيق، مرتَّب ونظيف كالمرايا. فهنا لا خطر انزلاق، ولا مياه متسرّبة صيفاً شتاءً، ولا أشرطة كهرباء معلقة بكثافة ــ نعم بعضها موجود للترميز ــ هنا لا سواقي تقفز عنها، ولا تشابكات في الزواريب لتحار كيف تحلّ متاهتها. هنا لا معوّقات لسَيرك، لا تعب حقيقياً ولا وجع رأس من تخبطات العشوائيات داخل مخيّمات اللجوء. هنا وبالمختصر: لا وجود لـ «كوكب البَرَكْسات» بل طمأنينة وفن ــ تشكيلي ــ يُهْدي الناظر صورةً جماليّة جميلة فنيّة مطمئنة (كلُعب أطفال المخيّمات؟). لذا تكمل مسيرك براحة تامة، تتأمّل التركيب الفنّيّ بـ «جمالياته»، وتصل إلى القسم الرابع.

بين الشريط الشائك والحرية... مسيرة تحرير
تنفرج الرؤية عن مساحة كبيرة معاكسة لضيق زاروب المشهديّة. تعطي ظهرك تلقائياً لسينوغرافيا أنموذج مخيّم اللجوء، وتستقبل: موجةً. ثمانية أمتارٍ عرضاً وثلاثة طولاً: موجة عالية من حديد وأسلاك شائكة. الحرفية العالية ومستوى الجهد المبذول يفرض بكلّ هيبةٍ وقتَ تأمّل. العمل هذا بكل المعايير التقنيّة والفنيّة ضخم، مهم، مميّز وقوّي الحضور. نصل فعلاً إلى تجهيز حقيقيّ يؤدّي وظيفته الفنيّة بدقة، فيغيّر الحيّز المكانيّ وينقلنا أبعد من إطار المشهديّة السينوغرافيّة المباشرة، إلى عالم حياكة سجاجيدَ طيّعةٍ من الأسلاك الشائكة. من الواضح أن قطناني متمكّن ــ لا بل يجيد بطلاقة لغتها، سواء على المستوى التقنيّ أو على المستوى الترميزيّ المفهومي. يصنع قطناني من عجينته هذه كل ما يريده من أشكال. وكل عجينة تُخبز بالصدق والحب لا بُدَّ من أن تشبع القلوب. يؤلّف بعجينته هذه منظومةً بصريّةً متكاملة البنيان. وهنا فعلاً ينجح، سواءَ في نقل البُعد الرمزيّ إلى أقصاه، أم البُعد التقنيّ الفنّي إلى أعلى حرفيّته الممكنة. ونسأل بتفاؤل أيضاً: إلى أين سيأخذنا في المرحلة القادمة من أعماله؟
موجة عالية من حديد وأسلاك شائكة تبرهن عن حرفية عالية بكلّ المعايير التقنيّة والفنيّة


«نحن كفلسطينيين نعيش في المخيم، كأننا في حلقة مفرغة ودائرة مغلقة. ودائماً من جيل إلى جيل نطرح نفس الأسئلة، وننتظر الجواب. نحاول أن نبحث عن إجابات ولكن لا نجدها، فنستنتج أننا لا نملك الإجابات منذ 70 سنة. إذا أردنا أن نبحث عن الحرية، يجب أولاً أن نتخلص من الشريط الشائك الموجود في داخلنا» يقول قطناني في آخر تسجيل مصوّر له. فهل سيبدأ معرضه التالي من هنا؟ وأيُّ بابٍ سيفتحه اللجوء والمنافي مجدداً نحو النتاج الفنيّ؟
متى سنبدأ كفنانين عرب وفلسطينيين بإنتاج فنٍّ إنسانيّ يستنبط «الحَلا» من «الحَلا»، لا من الانتهاكات؟ فالشريطُ الشائك بأبعاده الترميزية كلها التي استخدمها قطناني، نَسَجَهُ مُسَبِّبٌ أساس هو الاحتلال. نتحرر منه متى تحررنا من الاحتلال الصهيوني. بل نحرِّرُ جماليّة نتاجنا الثقافي والفنيّ بعد إزالة المنظومة والمشروع الصهيوني. فالمعادلة هي هي: لو لم يكن الاحتلال لما كان اللجوء، ولا المنفى القسري ولا الشتات. ولا كان نتاج فنيٌّ يبثُّ صرخات الانتهاكات الإنسانيّة، من باب الترميز أو الجهر.
للدقة: بزوال الاحتلال، ينتفي سبب اللجوء ومخيّماته، والمنفى القسريّ، والشتات، والنتاج المسوّر بحيطان الفصل العنصري الذي يبث صرخات الانتهاكات عابراً حواجزَ وأسلاكاً شائكة.
للدقّة أكثر: بزوال المنظومة والمشروع الصهيوني، يكون نتاجنا الثقافيّ والفنيّ حُراً، لا مُحرِّراً (إن توهّم أحد بإمكانية كهذه) ولا محرَّراً (يحبو بين ألغامٍ باقية في طلل زاروب مخيم لجوء). نعم، المعادلة بسيطة: زوال السبب يحتّم انتهاء النتيجة. فمتى نعالج الأسباب؟
«دَه حلم .. لكن.. لُه مَعاد» على ما كتب صلاح جاهين، «والفجر طالِع مين يحوشُه من الطلوع؟».

* «عصف فكريّ» لعبد الرحمن قطناني: حتى نهاية الشهر الحالي ــ «غاليري صبالح بركات» (كليمنصو ـ بيروت) ـــ للاستعلام: 01/345213