في تقريرها السنوي حول «التصنيف العالمي لحرية الصحافة» لعام 2019، أشارت منظمة «مراسلون بلا حدود»، إلى أن التدهور الحاصل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بات «أقل حدّة من العام الماضي»، مع انخفاض طفيف في عدد الصحافيين القتلى في سوريا، مع بقاء الخطورة في اليمن، وليبيا في ما يخص الاعتقالات التعسفية ودفع أثمان الحرب. وأشار التقرير إلى السعودية ومصر اللتين شهدتا تراجعاً في مؤشر حرية الصحافة، حيث «يقبع خلف القضبان عشرات الصحافيين من دون أن توجّه إليهم تهم رسمية». كذلك هي الحال في المغرب. واستثنت الميديا من هذه المشهدية تونس، التي حلّت في المرتبة الـ72 من القائمة التي تضم 180 بلداً، وقد تقدمت 25 مرتبة عن العام الماضي، مع تسجيلها «انخفاضاً ملحوظاً في عدد الانتهاكات».
عمل للفنان السوري محمد خياطة يعلن فيه تضامنه مع معاذ عمارنة


ترويج لـ «صفقة العار»
لعلّ الحدث الأبرز على صعيد الخليج، كان ما سُمّي بـ «الخطة الاقتصادية للسلام في الشرق الأوسط» أو «صفقة القرن»، التي رعاها مستشار البيت الأبيض جاريد كوشنير عبر مقابلتين حصريتين، خصّ بهما وكالة «رويترز»، تفيدان بفحوى هذه الخطة، التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، وتوطين فلسطينيّي الشتات لقاء أموال تُخصص للبلدان المتواجدين فيها: لبنان، مصر والأردن. خطة وُصفت بـ«صفقة العار»، تلاها «مؤتمر البحرين»، حيث حضر للمرة الأولى، الإعلام الإسرائيلي. إذ دخل صحافيون صهاينة إلى العاصمة البحرينية، وراحوا يتابهون بصورهم على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد واظب الإعلام الخليجي على الترويج لهذه الصفقة. بينما كانت «الجزيرة» تُصفي حساباتها مع السعودية، وتركز على تورط المملكة بمعية الأميركيين في «صفقة القرن»، كانت «سكاي نيوز» الإماراتية، تسمي «صفقة العار» بـ «المبادرة الأميركية لحلّ أزمة الشرق الأوسط» وتدعو إلى «تعاطٍ إيجابي» معها، من دون ذكر «إسرائيل» طبعاً.

السعودية: دماء خاشقجي
تفاعلت قضية اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، الذي قُتل في تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي في القنصلية السعودية في اسطنبول. فقد فجّرت «الجزيرة» قنبلة في آذار (مارس) الماضي، حين كشفت تفاصيل عُرضت للمرة الأولى، ضمن وثائقي «ما خفي أعظم» (إعداد وتقديم: تامر المسحال)، بحث في مصير جثة الصحافي السعودي. عبر الوثائق والشهود، تبيّن أن أجزاء من الجثة قد شُويت في فرن خاص، كان قد أوصى عليه القنصل السعودي هناك محمد العتيبي، في منزله. وبالفعل، وصل معدّ الشريط إلى صانع الفرن، الذي كشف أنه طلب منه بناء فرن ذي حجم كبير، وشكّك في أن يكون مُخصصاً للخراف. وقبل ذلك، تمكن الوثائقي من الدخول إلى مختبر «البحث الجنائي»، الذي تولى تعقب ملابسات الجريمة داخل القنصلية، وكشف عن وجود دماء خاشقجي على الجدران، بعد إزالة الطلاء المستحدث هناك. شريط لاقى ضجة عارمة، وأسهم في إنجاحه دعم تركي رسمي ومخابراتي، عدا تنفيذه بطريقة بصرية متقنة. لكن، يبدو أن هذه الحقائق لم تفعل فعلها. بعد خمسة أشهر من عرضه، ظهر شريط آخر، بتوقيع أميركي، يتصدره ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي تحدث عن هذه الجريمة بعد صمت مطبق لازمه لأشهر، بعد ضغوط وتقارير استخباراتية أميركية وغيرها أكدت ضلوعه في ارتكابها. الشريط صوّر لصالح شبكة PBS الرسمية، وقد نفى بن سلمان فيه تورطه في جريمة مقتل خاشقجي، وعلمه بحدوثها، فقد قال: «لدينا 20 مليون مواطن وثلاثة ملايين موظف».

أنديل ـــ مصر

وفي ذكرى اغتيال خاشقجي، عُرضت للمرة الأولى، تسجيلات سرية، استمعت إليها هيلينا كينيدي، وهي محامية بريطانية عملت مع إيناس كالامار «المقررة الخاصة للأمم المتحدة حول الإعدامات خارج القضاء بإجراءات موجزة أو تعسفاً»، في الأمم المتحدة. فقد عرضت شبكة BBC، في الأول من تشرين الأول (أكتوبر)، ضمن برنامج «بانوراما»، هذه التسجيلات، التي تظهر اللحظات الأخيرة التي قضاها الصحافي السعودي في القنصلية. فقد وثّقت المخابرات التركية على مدى يومين متتاليين، ما حصل هناك، وكشفت عن وضع كيس بلاستيكي في رأسه، وعُمد بعدها إلى تقطيع جثته، فيما كان العقيد في المخابرات السعودية ماهر المطرب يستمع إلى الموسيقى! وفي لبنان، مع بدء الحراك في 17 تشرين الأول (أكتوبر)، كان لافتاً تغطية «العربية» للحدث اللبناني، وإيلاؤه أهمية عالية في حساباتها. منذ اليوم الأول، دأبت الشبكة السعودية على متابعة التظاهرات، وتوزيع مراسليها على المناطق اللبنانية رغم قلة عددهم مقارنة مع حجم الحدث. هكذا تغلغلت داخل الحراك، مصوّبة في الأساس على «حزب الله»، منذ اليوم الأول، و«مبشّرة» بـ«كسر هالة نصرالله»، مع فتحها الهواء لوجوه سياسية تنحو إلى فريق 14 آذار (فؤاد السنيورة، أشرف ريفي، سامي الجميل،...) والتحريض على الحزب.

مصر: «تأميم» وقبضة أمنية مُحكَمة
في أيلول (سبتمبر) الماضي، اندلعت تظاهرات شعبية في مصر، عمّت أرجاء محافظاتها، تطالب برحيل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بعد كشف ملفات فساد في عهده، تولاها المقاول محمد علي، عبر سلسلة فيديوات نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي. تظاهرات كانت تصعب مواكبتها إعلامياً، نظراً إلى القبضة الأمنية والميدانية التي فرضها النظام المصري، في مدن السويس، الشرقية، الإسكندرية. لذا استعيض عن التغطية الحيّة، بفيديوات وثّقها ناشطون ونُشرت عبر الوسائط الاجتماعية. قناة «الجزيرة» كانت من بين الشبكات التي وضعت ثقلها في الحراك. إذ استعانت بناشطين وبكاميرات هواتفهم للبث الحيّ. وعلى الضفة المقابلة، كان الإعلام الرسمي المصري في غيبوبة، كأنّه في إنكار واضح لما يجري على الأرض، مع استخدام جوقة من الإعلاميين المعروفين (عمرو أديب، أحمد موسى..) وفنانين وممثلين (هاني شاكر، أحمد بدير، أحمد فلوكس، أحمد شيبة...) راحت تشكل حائط دفاع أول عن النظام مقابل أصوات معارضة وجدت نفسها على الشبكة العنكبوتية، وأغلبها يقطن خارج المحروسة، دعمت التظاهرات الشعبية. مصر شهدت في عام 2019 تراجعاً هائلاً في حرية الإعلام، تجلّى في القبضة الأمنية على قنوات التلفزة والصحف، وسوق الإعلانات، حتى بات التأميم الإعلامي واقعاً. إذ شهد عام 2019 سيطرة الدولة على الإعلام الخاص، ليتحول بدوره إلى قنوات ناطقة باسم السيسي، مع إطلاق قنوات «دي. أم. سي»، التي استقطبت وجوهاً إعلامية معروفة، وصرفت أموالاً طائلة على برامجها، وكانت الواجهة الإعلامية التي تتبع للإعلام الرسمي لكن بواجهة الإعلام الخاص.
يقبع عشرات الصحافيين في السعودية ومصر في السجن من دون أن توجّه إليهم تهم رسمية

كما استحوذت الأجهزة الأمنية على باقي القنوات الخاص، على رأسها «سي.بي.سي» التي أُجبر فيها رجل الأعمال محمد الأمين على التنازل عن أسهمه (51%) من الشبكة المصرية. الأمر لم يقتصر على الأجهزة الإعلامية، بل تعداه إلى عالم الدراما والإنتاج الفني، إذ مُنع العديد من النجوم الذين يعارضون السيسي من العمل في هذا القطاع، وأضحت شركة «إعلام المصريين» التي تمتلكها أجهزة المخابرات، تستحوذ على 80% من المحطات الفضائية والإذاعات التي تخرج من مدينة الإنتاج، وباتت تتحكّم بمصير العاملين هناك. وفي ما خص الصحف المصرية، جرى التضييق أكثر عليها، من خلال إيقاف نسخاتها مرات عدة، أو تهديد أصحابها بالسجن إن لم يخضعوا للأجهزة الرسمية. هذا، إن لم نذكر الأزمات المالية التي عصفت بقطاع الصحافة الورقية، في ظل تراجع حجم الإعلانات، لقاء إقبال القرّاء على اعتماد النسخ الإلكترونية بدل الورقية. أمر دفع بالعديد من مالكي الصحف خاصة من رجال الأعمال إلى اللجوء إلى ترشيد الإنفاق والبحث عن مصادر للتمويل.

سوريا: نفوذ السوشال ميديا
لا شيء يتغيّر في الشام على مستوى الإعلام في عام 2019 إلا شكل كتابة العام! اقتصرت الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة في سوريا على أخبار عاجلة متأخرة على المحطات الرسمية. أما محلياً، فقد رافقت الكاميرات وزير داخلية سابقاً ليكافح «الفساد»، ويأمر بحبس بائع طوابع بسيط في قصر العدل، وإحالته إلى القضاء لأنه يتقاضى خمس ليرات سورية (أقلّ من 10 سنتات)! في المقابل، لعبت السوشال ميديا دوراً فعّالاً، إذ تحوّلت إلى منصّات استرداد الحق من خلال التذكير بتجّار الحرب وحيتان المال والفساد. وبينما ظلّ الإعلام غائباً عن تنشيط الوعي في المعركة البرلمانية التي حصلت حول إقرار قانون لـ «وزارة الأوقاف» يمنح الأخيرة صلاحيات أوسع ويعطي الدولة ملامح إسلامية كاملة، تصدّت السوشال ميديا لذلك من خلال تسليط الضوء على نشاط النائب نبيل صالح ومواجهته لهذا القانون الذي تم تعديله لاحقاً!

فلسطين معاذ عمارنة
في فلسطين، أثار الاعتداء الصهيوني على معاذ عمارنة ضجّة عالمية عارمة. الصحافي الفلسطيني الذي كان يغطي فعّالية «مناهضة الاستيطان» في قرية «صوريف» (شمال غرب الخليل)، تعرّض لقنص مباشر من قبل العدو الإسرائيلي، رغم ارتدائه الخوذة ودرع الصحافة. أصيب في عينه اليسرى التي سرعان ما انطفأت، لكنها أشعلت موجة عارمة من التضامن الميداني والافتراضي، سيّما أن عمارنة يُعتبر من أول الصحافيين الذين وثّقوا استشهاد الشاب عمر البدوي، في شمال الخليل قبل أسبوع من وقوع الاعتداء. هكذا، أضحى الصحافي الفلسطيني رمزاً جديداً للتضحية، ومثّل «عين الحقيقة التي لن تنطفئ». وكانت الحادثة مصدر إلهام للفنانين الذين جسّدوا بلوحاتهم معاذ عمارنة، كما اجتاحت المنصات الافتراضية، صور لإعلاميين ومشاهير غطوا أعينهم اليسرى في خطوة تضامنية مع عمارنة.