يجمع عمر أبي عازار (من فرقة «زقاق») شذرات من البطل الملحمي، والبطل المأساوي ليكوّن شخصية اللابطل anti-hero المعاصر «حسين»، مستمداً قوامه من ملامح ميثولوجية ودينية ومذهبية لشخصيات أبطال مختلفة مرّوا عبر التاريخ.يتأرجح «حسين» أبي عازار كشخصية من القرن الحادي والعشرين في جدال بين البطولة واللابطولة في نص مسرحي ولامسرحي في الوقت نفسه. إنّه نص أقرب الى نصوص ما بعد الدراما، بمعنى أنّه لا يقدّم حبكة ولا فعلاً مسرحياً. كذلك فإن المعنى يتراكم من خلال جمل غير مترابطة parataxis من حيث التركيبة.

كل جملة من النص على حدة، تحمل صورة جديدة، فينهال النص على المتلقّي بتدفّق صور مشهديّة تفتح تأويلات ومساءلات لا تنتهي حول الوجود، والموت، والهوية، والذاكرة، والمدينة، والمجتمع، والتاريخ، والرغبات، والجسد والله. نص متشظّ الى أبعد حدود، جدير بأن يشكّل خطاباً لـ«حسين» المنفصم الذي يوجّهه الى عالم لا يسمعه ولا يراه. يجسّد الخطاب واقع العالم المعاصر ككلّ، خصوصاً واقعنا في المنطقة العربية عبر طرحه بطلاً تراجيدياً معاصراً يتفوّق بهشاشته على اللابطل. هذا التباعد والتقارب بين المفهومين المتناحرين يشكل ركيزة أساسية للنص يلعب عليها أبي عازار من أجل طرح واقعنا كواقع منفصم يحتضر. ينبض «حسين» بمفاهيم تزاوجت في زمننا، رغم تناحرها، مثل ثقافتَيْ الحياة والموت؛ ثقافتَيْ الاستشهاد والإجرام؛ زمنَيْ التاريخ والمعاصرة. يحوي النص جميع هذه التناقضات التي تلتحم بجسد حسين الذي يصبح خريطة وجودية تحمل الأحداث التي تعرّض لها أبطال الميثولوجيا والأديان ويتعرّض لها إنسان اليوم.
«حسين» أبي عازار في مظلوميّته يرجعنا الى سيرة الحسين الشيعية من جهة. وفي قيمته الوجودية واللعنات، يذكّرنا بالبطل الإغريقي من جهة أخرى. وفي عذابه يشبه يسوع. وفي انشطار البحار يعود بنا الى موسى. وفي تكوينه العائلي يرجعنا الى إبراهيم. وفي صراعه مع المدينة وعزلته وتهشيم هويّته وتوقه الى الموت تحت الشمس، يلتقط ملامح البطل المعاصر القاتل المنفصم روبرتو زوكو. تكمن المسرحة في النص في لعبة الشخصيات البطولية الممتدة عبر الأزمنة التي تلتقي في كيان حسين المهزوز.
يحمل «حسين» أبي عازار مفاهيم الأبطال وقيمهم، التي اهترأت في يومنا، وصارت فتاتاً يجترها، فتلهب «حرارة مصارينه الضائعة بين مصارين أخرى». يتوه بين غريزتي الحياة والموت في دهاليز المفهومين المتناقضين الفرويدي التدميري، والاستشهادي البطولي. يطرح الكاتب تساؤلات حول فكرةَ الاستشهاد وقيمتها البالية حالياً من خلال شخصية هشّة ومنفصمة وتدميريّة تحمل اسم أعظم شهداء التاريخ والإيديولوجيات والأديان «حسين». يولّد هذا التناقض ما يثير التساؤل حول الجوهر الحقيقي للقيم، وتشوّهها، وانقلاب المعايير وانهيار المفاهيم.
لا يعطي أبي عازار بطله فرصة للحياة. يستفتح نصه وينهيه بفكرة الموت منذ ولادته: «اسمي حسين، اليوم خلقت عم بتمرّن لَموت، على إجريي آثار ولادتي الملعونة». كذلك يصوّر انهيار قيمة الموت والحياة معاً في مقاربة الاستشهاد العبثي مع الولادة: «الولاد البعدن خلقانين بيفقدوا شكل براءتهن تيغلوا وينفجروا شهدا». يختصر أبي عازار فصول التراجيديا الإغريقيّة بجمل قليلة متفرّقة تحمل تراكماً كثيفاً محمّلاً بمعاني هذه التراجيديا حيث يولد البطل ثم ينبذ، فيموت ويستشهد ثم يتألّه. لكن حسين يقوم بدورته الوجوديّة البطولية بأبعاد تدميريّة معاصرة تلفظه الأمكنة والعائلة والمدينة والآخرون. يرى أبي عازار أنّ أدوات النص الأدائية هي أدوات سياسيّة، ويشير الى أنّه انطلاقاً من فرد، استطاع النص أن يسائل العلاقة مع المقدسات ومع السياسة الحالية ومع الفرد ومع الآخر والعلاقة مع الأرض، كما يسائل العلاقة بين أسباب موت أو «استشهاد» الإنسان في الحاضر مع ماض عمره حوالى 4000 سنة (مشيراً الى الفكر الأصولي). ويختم قائلاً «نعيش في حاضر مسخ. نعيش في زمن التراجيديا. نعيش في زمن استحالة الفعل واستحالة البطولة واستحالة فعل الاستشهاد».
تكمن صعوبة مسرحة «حسين» على الخشبة في طبيعة النص الذي يرتكز على حضور الممثل لا على التمثيل، وعلى فعل القول لا على الفعل المسرحي، وعلى المشاركة مع الجمهور لا على نقْل التجربة. لذا، حين اختارت المخرجة الألمانية ليديا زيمكي مسرحة النص أخيراً وعرضه في «استديو زقاق» من خلال إضافة مفاهيم مسرحية لا تتوافق مع طبيعة النص، تضعضع كيان النص وانقطع تراكم المعنى الذي كان قد عمل عليه أبي عازار في النص الأصلي. أضافت زيمكي الى العرض شخصية جديدة بخطاب جديد، في محاولة لخلق مسرحة ودينامية دراميّة بين الشخصيتين، على أساس اختلاف مفهوميْ السعادة لدى كل منهما. لقد انطلق العرض من نص «حسين» ومن قالب ارتجالي اعتمده الممثلان جنيد سري الدين (بدور حسين) والبريطانية لوسي ألينسون (بدور ماريا). لكن لا يسعنا أن نطرح مساءلة نقدية للعرض، لأنه كان ضمن إطار «استوديو مفتوح»، أي في إطار مختبر. يرى أبي عازار أنه لا بد من التجريب في هذه المرحلة بإمكانيات النص المحتملة، ولو على حساب زعزعة النص. برأيه، ذلك سيسهم في بناء رؤية إخراجية أوضح من أجل إكمال مسيرة العمل بشكل أكثر متانة من أجل الوصول الى عرض ناضج ومتكامل، على أن تنتقل التمارين الى برلين حيث سيُعرض العمل هناك في نهاية هذا الشهر. أما إشكالية أداء شخصية حسين من حيث التمثيل، فتكمن في خصائص النص التي تعتمد على القول لا الفعل، وعلى وعي الشخصية وانفصامها في آن واحد، وعلى تفكك الشخصية وخطابها، الأمر الذي يدعو الى مساءلة العلاقة بين الممثل والشخصيّة. لذا، يرى جنيد سري الدين (مؤدّي دور حسين) أنّ الفعل المسرحي في هذا النص يكمن في تبنّي الممثل للنص وفي تبنّيه لشذرات الشخصية الموجودة داخله كي يوجد ديالكتيكية بين الممثل والشخصيّة. يشبّه سري الدين الصراع بين الممثل والشخصيّة بصراع هاملت في أزمته الوجوديّة. «أنا كممثل أرتكز أدائياً بشكل عام على هاملت في صراعه بين الفكر والجسد، ما يدفع الممثل إلى أن يكون حضوره سياسياً على خشبة المسرح.» ويضيف أنّه رغم صعوبة أن يقوم الممثل على خشبة المسرح بطرح تساؤلات وجودية، إلا أنّ ذلك ينقذه من الإغراق في الرومانسية الشعرية أو المناجاة أو الاستعطاف في نص من نوع «حسين» مبنيّ أساساً على فعل القول.


* «حسين» نصّ لعمَر أبي عازار كتبه باللغة الفرنسية عام 2005 ونشره «دار أمير للنشر» في بيروت 2012. متوافر في مكتبات «أنطوان» وفي «دواوين» (الجميزة).



أشلاء على امتداد المدينة

النص الذي كتبه عمر أبي عازار عام 2005 يسائل مفاهيم الوضع الراهن أكثر من لحظة كتابته بحسب تعبيره. منذ 2005، استجدّت حروب وانقسامات وتفجيرات انتحارية، ما زاد تدهور القيم التي كانت تجمعنا. «لقد أخذوا منا حقنا في أن يكون لموتنا قيمة ما» يقول أبي عازار، مشيراً الى الفروق بين أهمية مفهوم الاستشهاد في الماضي وهشاشة هذا المفهوم اليوم، حيث «بتنا كاللحم في سوق اللحمة. لدينا رغبة في أن نَقتل وأن نُقتل وأن تتقطّع أجسادنا وأن تنتشر فوق المدينة».