لـ «غدانسك» مكانة خاصة عند البولنديين. من تلك المدينة، انطلقت حركة «تضامن» بقيادة عامل الكهرباء ليخ فاليسا التي كانت بمثابة تجربة رائدة في إسقاط أنظمة لا تريدها الولايات المتحدة عبر ثورات «ملونة» لا عنفيّة. كان ذلك في 1989. وقتها سقط النظام الشيوعيّ الحاكم في البلاد ــ قبل سنتين من سقوط الاتّحاد السوفياتي ــ على يد تحالف دُبّر بين قوى اليمين البولندي، والكنيسة الكاثوليكيّة، والمخابرات الأميركيّة. لكن شيئاً ما تغيّر بعد عشرين عاماً من قيام بولندا الجديدة. هذه المرّة أيضاً بدأ التغيير من غدانسك. إذ استيقظ سكان المدينة ذات صباح شتوي رماديّ قارس في شباط (فبراير) الماضي ليجدوا تمثال هنريك جانكوسكي (1936 – 2010) القسيس الذي كان أيقونة حركة «تضامن» العمّالية وقد أُسقط من مكانه وتناثرت قطعه على الأرض. كان جانكوسكي قد أصبح موضع جدل منذ بعض الوقت بعدما انتشرت أنباء عن اعتداءات جنسيّة متسلسلة ارتكبها ضد الأطفال والقصّر، وفقد مكانة البطل الأسطورة التي طالما روّج لها النظام البولندي. ورغم مطالبات بعض ضحاياه المتكررة بإزالة التّمثال احتراماً لعذاباتهم، إلا أن السّلطات تجاهلت المسألة تماماً، إلى أن قرّر أحدهم أن يكسر الأيقونة بيديه بينما المدينة تغطّ في نومها العميق.

من شريط «لا تخبر أحداً» (2019 – توماس ومارك سيكيلسكي – 121 دقيقة)

إسقاط تمثال الفاسد جانكوسكي كان بمثابة لحظة رمزيّة لتحوّل نوعيّ في الضغط على تحالف اليمين/ الكنيسة الحاكم بشأن قضيّة اعتداء رجال الإكليروس على الأطفال، التي ووجهت بكثير من البرود، والإهمال بل الصلف أحياناً من قِبل الكنيسة التي وصل بها الحال إلى الادّعاء بأن الأطفال الفاسدين هم الذين يغوون القس، وبأن موجة الاتّهامات المشينة التي يتعرّض لها منسوبوها ليست إلا ضغطاً سياسياً تمارسه النسويات في إطار سعيهنّ لإباحة الإجهاض الذي تعارضه الكنيسة بشدة. وكثيراً ما كان عقاب المتورطين عند ثبوته نقلهم من منصبهم المحليّ للعمل مع أطفال من مدينة أخرى. لكن ما أجبر الجميع في بولندا: النظام والكنيسة والشعب على إعطاء المسألة اهتماماً تستحقه، ونقلها إلى قلب النقاش العام كان الفيلم الوثائقيّ «لا تخبر أحداً» (2019 – توماس ومارك سيكيلسكي – 121 دقيقة) الذي صدم البولنديين وحقّق حوالى 20 مليون مشاهدة بعد أسبوع واحد من توفيره على يوتيوب في أيّار (مايو) الماضي. الفيلم يُظهر مجموعة من ضحايا اعتداءات رجال الدين ـــ وهم أصبحوا اليوم رجالاً ونساء راشدين ـــ يواجهون مغتصبيهم وجهاً لوجه. يصفون كيف دمّرتهم تلك الاعتداءات المؤسفة سايكولوجياً وحوّلتهم إلى بشر تعساء، في الوقت الذي تجاهلت فيه السلطات بشكل ممنهج عذاباتهم. إذ كان أقسى ما تعرّض له أي من البيدوفيليين هو نقلهم من مواقعهم لا أكثر، في تناغم مشهود مع سلوك الكنيسة الرسمية في أكثر من بلد غربي من الولايات المتحدة إلى إيرلندا، ومن بريطانيا إلى رومانيا. لكن بولندا شيء آخر تماماً. فالمجتمع هناك يعدّ الأكثر تديناً عبر منظومة الاتحاد الأوروبي، ويعرّف حوالى 90% من سكانه عن أنفسهم بأنهم كاثوليك، ويقوم النظام السياسي الحاكم (منذ 2015) على تحالف متين معلن بين اليمين المتطرّف والمؤسسة الدينية، ويقدّم نفسه لمواطنيه بأنه «قلعة المسيحيّة» في أوروبا. لذا، فإنّ مسألة المسّ بالكنيسة تكتسب حساسيّة مضاعفة.
جاروسلو كازينسكي رئيس «حزب القانون والعدالة» اليميني الحاكم سارع إلى التصريح بأنّ «أيّ يد ترفع على الكنيسة تريد هدمها، هي يد ترفع على بولندا»، وبأنه «من دون الكنيسة، لا وجود للأمّة البولنديّة». لكنّ ذلك أثار غضب البولنديين أكثر مما طمأنهم، وتسبّب في اتّساع موجة الاستياء البالغ التي أطلقها «لا تخبر أحداً».
يقول الناشطون الذين كانوا وراء الوثائقي بأنّ حجم الاعتداءات على الأطفال في الكنيسة يصل إلى مستوى الوباء، ووصفوا الأرقام الرسمية المتداوَلة في هذا الشأن بأنّها مجرّد رأس جبل جليد هائل تحاول السلطات إبقاءه بعيداً عن الأنظار. وكان مكتب إحصاءات الكنيسة قد أصدر بعد أربعة أسابيع من عرض الوثائقي ــ ونتيجة للضغط الشعبي ــ أول احصائيّة علنيّة عن جرائم البيدوفيلية في أوساط الإكليروس خلال السنوات الثلاثين الماضية، محدّداً عدد الضحايا بـ 625 نصفهم دون الـ 15 عاماً، بينما وُجّهت الاتّهامات لـ 382 من رجال الدين. وتحوّلت أقل من نصف القضايا إلى شكاوى لدى مخافر الشرطة. لكنّ منتجي الفيلم يقولون بأنهم تلقوا خلال أسبوعين فقط من تحميل الفيلم على يوتيوب أكثر من 150 شهادة جديدة لضحايا اعتداءات قام بها رجال الدين ولم تتحوّل إلى قضايا لأنّ أحداً لم يصدّقهم وقتها. ومن الواضح أنّ مزيداً من الأشخاص سيتشجعون الآن للتقدّم بمزيد من الشهادات.
وفي الحقيقة، فإن «لا تخبر أحداً» تحوّل شيئاً فشيئاً إلى نوع من نقطة مركزيّة لثورة ثقافيّة تتصاعد في أوساط الشعب البولندي لمحاكمة دور الكنيسة في الحياة العامّة. وفق دونالد تاسك، رئيس الوزراء البولندي السابق والرئيس الحالي للمجلس الأوروبي، «فقدت (الكنيسة البولنديّة) القدرة على لعب دور ضمير الأمة». وبدأ بولنديّون كثيرون للمرة الأولى منذ عشرين عاماً بهذه الكثافة والصراحة بطرح تساؤلات كانت لوقت قريب خطوطاً حمراً بشأن اتّساع تأثير رجال الدين على مجريات الحياة السياسية في البلاد، وإن كانت هذه الموجة لم تصل بعد إلى مستوى حركة سياسية قد تفرض تحوّلات جذريّة على الأرض.
يظهر الشريط مجموعة من ضحايا اعتداءات رجال الدين يواجهون مغتصبيهم وجهاً لوجه


الحزب الحاكم، الذي تبنّى منذ تولّيه السلطة تنفيذ حزمة سياسات تكرّس هيمنة رجال الدين على الشأن العام لا سيّما في مجالات التعليم العام، والتعامل مع المثليين، ومسألة الإجهاض، ومحاربة الشيوعيّة اضطرّ في مواجهة العاصفة لاتّخاذ قرار يقضي بزيادة الأحكام بالسجن على البيدوفيليين من 12 إلى 30 عاماً. لكن المحاكم البولنديّة لم تصدر حتى الآن أيّ حكم وفق التشريع الجديد رغم إقراره منذ أشهر.
على أنّ تأثير «لا تخبر أحداً» لن يتبدّد بسهولة في ما يبدو. إذ تعدّدت الرّوايات حول أعمال عنف فرديّة يتعرّض لها رجال الدين في أكثر من مكان في بولندا. وقد طُعن كاهن بالسكين بعد مجادلة حادّة مع أحد ضحاياه، وهناك تقارير عن ضرب مبرح تعرّض له آخرون. وأعرب مسؤولون في الكنيسة الرسميّة عن «قلقهم على الأمن الشّخصي لقيادات الأكليروس بعد عرض الفيلم». وبحسب دراسات لمراكز أبحاث، فإنّ الرأي العام البولندي سجّل هذا العام أدنى مستوى ثقة له بالكنيسة منذ ربع قرن ليصل إلى مستوى 48% فقط مقارنة بـ81% وقت إسقاط النظام الشيوعيّ السابق. وهناك الآن فجوة تزيد عن 23% حول أهميّة الدين في الحياة الشخصيّة بين الجيل الحالي من الشباب وجيل آبائهم الذين عاصروا مرحلة 1989. ورغم أن الحزب الحاكم والكنيسة الرسميّة اقتربا من بعضهما أكثر في ظلّ الأزمة المتصاعدة، إلا أن المطلعين على الشأن البولندي يقولون بأن تعاظم تأثير «لا تخبر أحداً» سيؤدّي في المدى المتوسط إلى تراجع شعبيّة الأحزاب اليمينيّة المتحالفة مع الكنيسة، وأنّه سيأتي وقت سيحاول فيه السياسيون التنصّل من رفاقهم الكهنة إن هم أرادوا الاستمرار في الحكم والحصول على أصوات المواطنين. لقد بدأ موسم إسقاط الأيقونات.