مراكش | لم يأخذ أحمد غصين بيدنا رويداً رويداً، بل رمى بنا في منتصف الحكاية. حكاية الحرب (العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006) بدأت منذ زمن وما زالت مستمرّة، ونحن جئنا لنشهد فصلاً من فصولها. هذه الحكاية هي هيكل اجتماعي قائم ولا يزال. موهبة غصين أنه قدّم لنا «حدوتة» الحرب في ساعة ونصف الساعة ضمن فعاليات الدورة 18 من «المهرجان الدولي للفيلم بمراكش» الذي يختتم اليوم. أهوال الحرب وجنونها سردها غصين بجدية بالغة وبطريقة ساحرة. لم يحتَج المخرج اللبناني الشاب إلى تقنيات أفلام الحروب، ولا إلى دماء وأشلاء ومتفجّرات ونار تخرج من الشاشة. احتاج إلى العنصر الأول والأساسي في الحرب: الإنسان.بقوة تعبيرية وتوتر وتشويق عالٍ، سجننا غصين في الصالة، وسجن شخصياته في فخ وساحة معركة. نجح في إثارة دهشتنا وحبس أفكارنا وكلّ حواسنا في الفيلم. قلب مشاعرنا واحاسيسنا بغمضة عين. تضرب صورة غصين المشاعر. يلامس تأثيرها التنويم المغناطيسي، فنشعر بالعجز أمام الشاشة، بالأصفاد التي تكبّلنا للتسمّر والإنصات منذ البداية حتى النهاية. الفيلم يثير مناخاً من القلق، فيتجاوز حدود الصورة ومحدودية الحركة. هو أبعد من الحرب وأعمق من تأثيرها. يأخذنا إلى حدود الوقت ومحيط الذاكرة وأثر اللحظة لنصل إلى أوان انكسار حاجز الزمن.
يتبع «جدار الصوت» قصة مروان (كرم غصين). خلال هدنة معلنة، يغادر مروان بيروت متوجّهاً إلى الجنوب للبحث عن والده الذي يرفض مغادرة القرية. طريق مروان وزوجته مختلفان: بينما هو متوجّه إلى الجنوب، تحضر زوجته حقائب وجوازات السفر لمغادرة بلاد على شفير الدمار. لم يعثر مروان على والده، بل على أصدقائه. الهدنة انتهت، فيجد مروان نفسه مع عدد من الأشخاص (الراحل عادل شاهين، بطرس روحانا، سحر منقارة، عصام بو خالد) عالقين في المنزل في جوّ من التوتر من الداخل والخارج.
لم يرِد غصين في فيلمه الدخول في البديهيات، وابتعد عن الكليشيهات. العدو موجود ومعروف، ولو كنّا لا نراه. ومن السهل جداً تقديم فيلم عن الحرب وأهوالها بالموتى والدمار والأشلاء، وهذا لم يرده المخرج. بل وضعنا في تساؤلات الشخصيات وأفكارها وهي تتطابق مع ما نفكّر فيه. ذهب إلى ما هو أعمق من ذلك: الجنوب والحرب والعائلة و«الشباب» والضياع والخوف. الشخصيات لا تعرف ما سيحصل بين ثانية وأخرى. الموت قريب ولو أننا لا نراه. الأمل مفقود ولو كنا نتأمله. الخروج خطر، ولو تقرّر الخروج، فإلى أين؟ وما هو الشعور في الأصل؟ الشخصيات أصبحت لا تعرف ما تشعر به.
خلق غصين ثنائية الصوت والصورة ولو أنّ كل واحدة مستقلّة عن الأخرى في الفيلم. فالصوت يأتي من الخارج والصورة دائماً في الداخل. إلّا أنهما يمتزجان ليخلقا تتالياً دائرياً جهنمياً من المشاهد التي تبقى غير واضحة أو مفهومة حتى للشخصيات المسجونة. فالصورة لا تكتمل جودتها من دون الصوت، لكنّ المجال السمعي ليس للموسيقى، بل لأصوات المحيط والبيئة والطبيعة والحرب. قنابل ورصاص نسمعهما فقط، ولا نعرف من أين يأتيان وصولاً إلى محركات الآلات العسكرية. صوت يضربنا من الداخل، فيصيبنا الرعب في قلوبنا ونتمنّى أن تنتهي هذه الحرب لنتنفس. يتقن المخرج تضييعنا وترك الأحداث تائهة، حتى طريقة تقديم الفيلم وتوليف السيناريو تسير في الاتّجاه ذاته. هناك عدم يقين يحيط بالأحداث. هذا المجهول الذي نخافه، وضعنا غصين فيه وتركنا نتساءل. تارة يبعدنا عن مسار القصة الرئيسي، وطوراً يعيدنا فجأة إلى الواقع. يختبر صبرنا ثم يكشف دواخل الشخصيات واحدةً تلو الأخرى. حقيقة واحدة هي حالة الحرب تفرّعت عنها جذور حقائق متشعّبة. يُقال الكثير عن العوالم الفرعية المتوازية المفتوحة للنفس البشرية. نغوص في تعقيداتها، فنكتشف الموازي في أنفسنا وأنفس الآخرين. وإن تجاوزنا فعلاً زبدة «جدار الصوت»، سنكتشف ونستخرج أسرارنا التي استعصَت علينا يوماً.
أفاد غصين من جميع الوسائل المُتاحة: ثقته بالسينما كلغة بصرية واضحة. فضاء خانق يرزح على الصدور، وجوه خائفة، سكوت، صورة سريعة، ظلال ومياه وفجوات، كلمات قليلة تخرج من الأفواه، نفس سريع وعرق... تحرك غصين في مساحته الضيقة بحرّية، وحبس شخوصه فيها، وحبس أيضاً الجدلية الفكرية للانتصارات في مخيلتهم. هو لم يعطِهم الأمل إلّا بالمخيلة والوهم والخيال وبعض المياه من الجدران والهواء من الفجوات والسماء والشمس. دمرهم غصين مثلما دمرتهم الحياة والحرب والسياسة وحتى الكاميرا. لا مفرّ من العالم الذي يشيّده غصين، عالم يبث الروح ويضفي كثيراً من الإنسانية. الصورة تتحدّث عن نفسها، بلغتها الخاصة ورمزيتها الفائقة. كلّ شيء مبهم، الوجوه الغاضبة لا تكاد تواجه ضوء القمر أو نور الشمعة. نهار تضيء فيه الشمس الوجوه من زجاج الشبابيك وفجوات الأبواب، فترفع غموض الشخصيات ونبصر لا مبالاتها في وجه الموت.
ابتعد غصين عن السياسة، فهو لا يريد أن يقدّم بياناً سياسياً ولا صك براءة في الوطنية. هو لديه ما يقوله. رأى الحرب وعاشها مثل جميع اللبنانيين. لديه تساؤلاته ونقده لكلّ شيء يدخل في لعبة الحرب من السياسة إلى الدين. أجاد تقديم رؤيته للحروب والانتصارات بلغته السينمائية التي يجيدها. فلم يبتزنا ولم يعطنا دروساً أو مواعظ. أخذ حريته في ما يقوله، وترك لنا حرية التحليل.
قليلة هي الأفلام المنتجة حديثاً، بخاصة العربية منها، التي تعود بنا إلى أساسيات السينما، أو لنقل نظرية السينما، مفهوم اللغة السينمائية التي دافع عنها بشراسة أحد أهم النقاد الذي وضع مفهومه للسينما، واخترع عملياً «دراسات السينما» اندري بازان. رأى بازان أن السينما لها جوهر، وجوهرها هو الفكرة التي تسبق الاختراع. لذلك الفكرة السينمائية متفوّقة على الوسائل التقنية المستخدمة لتحقيق ذلك. اشتهر بازان بنظريته عن أن الواقعية أهم وظيفة للسينما، وأن السينما واقعية بطبيعتها بسبب الوسيلة الميكانيكية للكاميرا. ودعا إلى الواقعية ولكلّ شيء يدعمها مثل الصوت والتركيز العميق والتوليف غير المرئي. وكان يشعر بالقلق من أيّ شيء لا يدعم الفيلم ولا يخلق إحساساً أو معنى مناسباً للصورة نفسها. أصرّ على أنّه يجب إدخال الصوت كعنصر أساسي يعزّز الواقع في الفيلم، معتبراً أن تفسير الفيلم والمشهد يجب أن يترك للمشاهد. وما ذكرته آنفاً هو أساس عمل أحمد غصين في باكورته الروائية الطويلة.