في الأيام الماضية، طرح أحد الناشطين البارزين، وممن نزلوا وما زالوا إلى ساحات الاعتصام، سؤالاً على تويتر، عن سبب تغييب الإعلام لمجموعات من الحراك الشعبي، وتحديداً من خيم «اللعازارية»، التي «تحمل مشروعاً وأوراقاً إصلاحية» وتبثّ الوعي في صفوف الناس على حدّ تعبيره. وبصرف النظر عن تحديد المجموعات، بقي السؤال عن تقاعس الإعلام المرئي، منذ بداية التظاهرات الشعبية، عن استغلال ساعات الهواء لديه، وتحويلها إلى مساحات نقاشية مفيدة، بغية تقديم خطاب متقدّم عن السائد في الشارع، الذي يتّسم في كثير من الأحيان بالتناقض، والعشوائية، وفي ظلّ تراجع حركات الاحتجاج في الشارع، لصالح أجواء قاتمة تخيّم على المشهد اللبناني، أبرزها شبح الأزمة الاقتصادية والمعيشية. على مدى أكثر من أربعين يوماً، والإعلام المرئي في لبنان، لم يجرِ أيّ مراجعة بشأن ما يحصل في الشارع، وفي كواليس السياسة. نراه متخبّطاً في كثير من الأحيان، خاصة بعد انكفاء المشهد الاحتجاجي الحاشد، لصالح أنشطة متفرّقة في الشارع، تطرح بدورها عناوين قد تشذّ عن واجهة المطالب التي نزل الناس كرمى لها، كالحديث عن رفض عودة الحرب الأهلية والصدامات الطائفية. بعد مرور أسبوعين تقريباً على بدء الاحتجاجات، انتقل النقاش إلى داخل الاستديو، مع فتح ملفّات تُعنى بالفساد المالي والإداري، وبدأت العدوى تنتشر بين القنوات في التنافس على نشر أو إعادة نشر (بما أن معظم الملفات كانت قد عُرضت سابقاً على الهواء)، هذه الملفات وفتحها، وبعضُها كان يُطرح للمرة الأولى، مع الشخصيات المعنيّة، أو المطلّعة عليها. لكن هذه الموجة لم تستمر طويلاً، رغم أنها مطلوبة، بصرف النظر عن تضمّنها بعضاً من لغة الاستعراض التلفزيوني. فهذا النمط من البرمجة قد يملّها المشاهد، بخاصة مع وسائل إعلام امتهنت لسنوات طوال، خطاباً تسطيحياً، وغيّبت نقاشات أساسية حاصلة في البلد. فضمن لغة الرايتينغ، لا يكتب لمساحات كهذه الاستمرار. وهكذا صار، إذ تقلّصت المساحة الممنوحة لهذه القضايا لصالح فسحات أخرى جنحت صوب الترفيه، ومرات كثيرة صوب الإثارة وحتى الفضائح. لم ننتظر طويلاً، حتى أدخلت فقرات وأثيرت مواضيع، تعدّ هامشية لكنها فعّلت على هذه المنصات. نتحدث تحديداً عن قناتيّ «الجديد»، وmtv، مع بقاء lbci، خارج هذه الدائرة كونها بقيت محافظة على نمط واحد من البرمجة، مع إثارة بعض المواضيع الجدلية الشعبية في نشرات أخبارها، من دون أن تسعى لتحويلها إلى قضايا رأي عام!قد لا تُنسى الكارثة التي ألمّت بالقنوات وتمثّلت في تطيير برمجتها الخريفية، وبرامجها ومسلسلاتها، حتى تلك التي تخرج للمرة الأولى على الشاشة. مشاريع عوّلت عليها هذه القنوات لتحقيق نسب مشاهدة عالية، وسط منافسة شديدة. مع هذه الخسارة، وانكفاء مشاهد الساحات التي جلبت بدورها جمهوراً تسمّر طويلاً أمام الشاشات، بدأت ملامح أخرى تتبدّى، قوامها نقل جزء من مساحات السوشال ميديا، إلى المنابر التلفزيونية، وبعضها انحرف صوب الفضائحية والإثارة. بتنا أمام مشهد مكرّر من ليالي «الاثنين» أو برنامج «للنشر» مستنسخاً على الشاشتين، لا سيما مع عودة كلّ من طوني خليفة، مقابل جو معلوف، ليلة كل اثنين. هكذا، تغيّرت المشهدية مع إبقاء قشورها حاضرة في الديكور وترداد العبارات «الثورية» لصالح جدالات طالعة من رحم مواقع التواصل الاجتماعي، التي تشكل اليوم، ثقلاً في المشهد الشعبي والتلفزيوني. هذا ما رأيناه مثلاً في قصة ربيع الزين، التي بدأت من «الجديد» بتاريخ 27 تشرين الثاني (نوفمبر)، بوصفه متّهماً بالتورّط في إشكالات عدة حصلت في صور، طرابلس وعين الرمانة. القصة لم تنتهِ بمقابلة تلفزيونية، بل امتدّت إلى أخذ ورد، بين المحطة وبين الناشط صارت أشبه بحفلة «نشر غسيل» (نشر فراس حاطوم اسم زوجة الزين وتاريخ إقامته في استراحة صور). ثم سرعان ما فعّلها تقرير lbci عن ربيع الزين وفضح مهامه في الحراك.
إهمال القضايا المعيشية والاقتصادية لصالح استضافة حالات صنعت جدلاً على السوشال ميديا

ثم انتقلت القصة إلى mtv حيث استضافه معلوف، فاسحاً المجال أمامه لتقديم أوراقه والتنصّل من تورطه في الإشكالات التي أثيرت في الإعلام. مسار يأخذنا بالطبع، إلى تضخيم الحالة إعلامياً، وتفعيل نقاش لا طائل منه، إلا في الأروقة القضائية لا على الشاشات. وزادت الطين بلّة قصة مروان حبيب المتّهم بالتحرش بالنساء في ساحات الحراك. في نهاية الشهر الماضي، أطلّت الناشطة ألكسندرا زهران، التي أسهمت في إثارة الجدل حول حبيب، لتتحدّث عن أعداد كبيرة من شهادات النساء اللواتي تعرّضن للتحرّش ولمضايقات جسدية ولفظية، مع رفض مروان حبيب الحضور إلى الاستديو ومقارعة متهميه. بعد مرور نحو أربعة أيام، ظهر على mtv، مع معلوف. حلقة أثارت بدورها الجدل، كون جو معلوف انزلق في النقاش إلى تصنيف التحرش ضمن خانة «الزناخة». حصل ذلك لدى عرضه مجموعة لقطات لحبيب وهو داخل ناد ليلي، يضع حبة ثلج داخل بنطال إحدى الفتيات. أمر اعتبره معلوف صادراً عن «زناخة» و«بصير كتير بالنايت كلوب»! ما دفع بالعديد من الناشطين إلى مهاجمة معلوف واعتباره مدافعاً عن التحرش!
وباستضافة هذه الحالات الفردية، التي يسعّر حولها الجدل على السوشال ميديا لكن باتت تتغذى عليها الشاشات، وتفرد لها مساحات، من دون جدوى سوى باستقطاب جمهور، وبإشاحة النظر عن قضايا معيشية واقتصادية غيّبت اليوم في مجملها، لصالح برمجة تعود بنا إلى ما قبل «17 تشرين»، وتعرّي قيام هذه الشاشات وغيرها بلبس رداء «الثورة» ونقل أوجاع الناس. وإذ بنا أمام «للنشر» مستنسخاً ما بين «الجديد» وmtv، مدعوماً بعناصر الجنس والإثارة والشعبوية.