حالما تلفظ صفة «محروسة» أمام أي لبناني أو عربي، سيعلم أنك تتكلم عن شاحنة نقل. منذ سنوات طويلة، طوّر صنّاع وسائقو الشاحنات عبارات ورسوماً وتصاميم خاصة بعالمهم. نصادفهم يعبرون الشوارع ونحن عالقون في سياراتنا في زحمة السير.
نتلفت لنحاول قراءة الاسم الذي قرر السائق إطلاقه على شاحنته، أو العبارة التي اختارها كي تحميه من الحسد، من دون أن يخلو الأمر من بعض الأبيات الشعرية الميلودرامية «إني لا أخاف الموت، لكن دمعة أمي تقتلني».
ذلك العالم الغني بصوره ولغته وجمالياته الخاصة، جذب الباحثة والفنانة هدى قساطلي، لتغوص في بحث تطويل يتتبع ويوثق عدداً كبيراً من الشاحنات على الأراضي اللبنانية، لينتج عنه بعد سنوات طويلة كتاب موثق بالصور الفوتوغرافية، ومعرض تحتضنه حالياً «غاليري أليس مغبغب».
ليس مصادفة تطور تلك الجماليات الخاصة بعالم شاحنات النقل. إنّها مرتبطة على نحو مباشر بطبيعة العمل وبيئته. يقضي السائق في شاحنته وقتاً يتعدى الوقت الذي يقضيه في بيته، فتربطه علاقة قوية ويوميّة بها، مما يفسّر ذلك الاهتمام الكبير باختيار الألوان والرسوم والعبارات المزينة لها. باختصار، إنها بيته الثاني. ونظراً إلى الوقت الذي يمضيه السائق على الطرقات، مسافراً لنقل البضائع، فقد لا نبالغ إن قلنا إنّ علاقة حبّ تنشأ بينه وبين شاحنته، فيطلق عليها أسماء ويدلّعها، ويتغزل بها أمام أصحابه. أما السفر لأيام بين البلدان المجاورة لنقل البضائع، والانتظار ساعات عند الحدود، فدفعا السائقين إلى تزيين شاحناتهم بعبارات الجلالة والعيون المضادة للحسد والطمع، التي تحميهم وشاحناتهم من مخاطر الطرقات والسفر. تلك العلاقة بين السائق وشاحنته تطرق إليها المخرج سيمون الهبر في قسم كبير من فيلمه الوثائقي «الحوض الخامس». أما هدى قساطلي، فركزت في بحثها على نتاجات تلك العلاقة، التي تبدأ عند تصنيع هيكل الشاحنة، ولا تنتهي عند الإضافات التي يختارها كل سائق لتزيين شاحنته متى أصبحت ملكه.
في كتابها «الشاحنات المرسومة في لبنان اليوم» الصادر عام ٢٠٠٩ بالفرنسية عن دار Terre du Liban، قسّمت قساطلي العمل إلى فصول تركز على ثيمة معينة مثل «لفظ الجلالة، العين، الرسوم، النصوص، الوطنيات...». وأرفقت كل فصل بنصّ وصور جمعتها خلال بحثها الطويل. من تلك الصور الفوتوغرافية اختارت قساطلي بعضها وطبعتها وأطرتها بأحجام مختلفة، وعرضتها الآن في صالة «أليس مغبغب». هذا الكتاب قيمة بحثية وتوثيقية وتحليلية مهمة، وخصوصاً أنّ تلك الثقافة بدأت تتلاشى. في الماضي، كان معظم السائقين يمتلكون شاحناتهم الخاصة التي يعملون عليها لسنين طويلة، ويطورون علاقة حميمية معها، مما يدفعهم إلى الاهتمام بشكلها الخارجي وتزيينها. أما اليوم، فأصبح معظم السائقين أُجراء لدى شركات كبيرة، يعملون على قيادة شاحنات لا يمتلكونها، بل تعود ملكيتها إلى شركات النقل، مما أدى إلى إهمال تزيينها. أما المعرض ـ للأسف ـ فلم يتخطَ فكرة توفير بعض تلك الصور مكبّرة ومطبوعة وجاهزة للبيع وللتعليق على الجدران. لم تقدم قساطلي مقاربة فنية تحاول محاورة تلك الثقافة الشعبية في جماليتها الخاصة، بل اكتفت بتأطيرها وعرضها للبيع. وهنا لا ننفي القيمة الجمالية التي تميّز صور هدى قساطلي، لكنّها متوافرة في الكتاب، فما الذي دفعها إلى اختيار بعضها ونقلها من إطارها التوثيقي إلى فضاء العرض؟ هذا الأمر يحيلنا على سؤال عن الدور الذي يقع على عاتق الفنان بعد مرحلة البحث والتوثيق. والأهم أنّ تلك الثقافة الشعبية التي نمت وتطورت لغتها الجمالية على نحو عضوي ضمن مجتمعها الخاص، تقع هنا في خطورة تحوّلها من الشعبية إلى «الكيتش»، الذي يجذب بعض «الإكزوتيكيين» لتعليقه على جدران بيوتهم. ربما كان من المثير للاهتمام أن نشهد في المعرض حواراً أعمق بين اللغة التشكيلية اللبنانية المعاصرة، وتلك اللغة الفنية العضوية الخاصة بعالم الشاحنات. برغم ركاكة الطرح الفنيّ، يبقى العمل البحثي والتوثيقي لهدى قساطلي مهماً وقيماً جداً، على أمل ألا تتحول صور الشاحنات إلى لانجري سورية ثانية.

«سفر الكلمات على هوى الشاحنات» لهدى قساطلي ـــ حتى 28 آذار (مارس) ـــ «غاليري أليس مغبغب» (الأشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/204984