احتفاءً بيوم الفلسفة العالمي، وكعادته، أقام «معهد المعارف الحكمية» أخيراً ندوة تخصصية بعنوان «الجماليات ببعديها النظري والتطبيقي» بمشاركة الباحثين محمد شيا، ونادر البزري (أدارت الندوة الإعلامية زينب إسماعيل).بداية الندوة كانت مع محمد شيا الذي تناول موضوع «تأصيل الفن وتحريره في نظرية كانط الجمالية»، فتطرق إلى المقصود من مصطلح الجماليات كما استقرّ عليه الأمر منذ بدء الاستخدام الفلسفي الحديث للمصطلح مع بومارتن. وأشار إلى أن البداية النظرية كانت مع فيثاغوراس الذي رأى الجمال في معرفة تناسق الأعداد. وعقلانية فيثاغوراس التامة ستجد صداها المباشر في مثالية أفلاطون، إلا أنها ستجد أقوى أشكالها الحديثة في عقلانية كانط المثالية.
وعرج شيا على الخطوط العامة في نظرية كانط الذي خصّص ثالث أعماله النقدية للمسألة الجمالية، من خلال كتاب «نقد الحاكمة» الذي قدم فيه تصوراً نقديّاً خاصّاً. كان كانط يستكمل بعمله ذاك بنيانه الفلسفي النقداني بالتوفيق، كما يقول، بين حال الطبيعية وحال الأخلاق، وبين الضرورة والحرية.
وذهب شيا إلى أن عقلانية كانط تذهب بالجماليات إلى أبعد حدود الفهم المشترك والعقلانية والصورية، معتبراً أنّ كتاب «نقد الحاكمة» استكمال لثلاثية المعرفة والأخلاق والوجدان. ومن خلاله أظهر أنّ ملكة الحاكمة تقع بين العقل النظري والعقل العملي، والحلقة التي تجمع بينهما في حقل الحكم الجمالي، أي بين حال الطبيعة وحال الأخلاق. وحسب قول كانط: «إذا لم تكن الحاكمة ملكة خاصة لسن القوانين، فهي على الأقل مبدأ يجعل لنفسه ما تنطبق القوانين عليه».
وفي ما يتعلق بماهية الجميل، أشار شيا إلى أن كانط يشتقّ هنا مكاناً للحكم الجمالي، متميزاً عن الأحكام الأخرى، وبخاصة الحكم العلمي، والحكم العقلي، والحكم الأخلاقي، في آن. هي مسألة ذوق خاص في إدراك الجميل لا الحكم عليه.
ويذكر شيا أربعة شروط أو تحديدات لحكم الذوق عند كانط: لجهة الكيف، لجهة الكم، لجهة الإضافة، ولجهة الشكل. ففي التحديد الأول، يبدو الحكم الجمالي حيادياً منزّهاً عن كل غرض أو غاية أو منفعة، وهو حجر الزاوية في نظرية كانط الجمالية. وفي التحديد الثاني، الكم، يكون الجميل جميلاً، وموضوع رضى كلي بمعزل عن الأفاهيم؛ أي الأفاهيم العقلية. وفي التحديد الثالث، الإضافة أو النسبية، يميّز كانط الحكم الجمالي من أي حكم عملي أو آلي تابع باثولوجي. وفي التحديد الرابع، الشكل، «الجميل هو الذي يجري التقاطه موضوعاً للسرور أو الارتياح، ضرورة، ومن دون أي تصور».
واعتبر شيا أن أهمية نظرية كانط الجمالية تكمن في حيادية الحكم الجمالي، حيث يقدم قاعدة مرنة لحكم جمالي، ولإنتاج فنيّ حر، غير محكوم بحتمية الطبيعة، أو قوانين العقل، أو الأهداف والغايات الأخلاقية. فهذا التمييز الكانطي غنيّ جداً ويعيد للفن اعتباره، واستقلاليته، ويسهم في إبعاد كل تدخّل تعسفي مفروض من الخارج على العملية الفنية وعلى الحكم الجمالي. ورأى شيا، أن التصور الكانطي هو رفض لكل غائية من خارج الفن، رفض لعبودية الفن، أو استعباده لصالح فئة اجتماعية... رفض لكلّ ما هو غير جمالي في التأسيس للعمل الفني والحكم الجمالي. رفض لدونية الفن والفنان، رفض لتقييد الفن في أطر تقليدية ثاتبة وفتح باب التطور والتجديد نحو المستقبل.
وختم شيا بالقول: «ستبقى نظرية كانط الجمالية، في طبيعة الفن والحكم الجمالي، كما نظريته النقدية عموماً، منجماً للأفكار المتسامية على التبسيط الآلي السهل من جهة، وعلى التوظيف النفعي أو الأيديولوجي لملكات الإنسان، كما للإنسان نفسه، من جهة ثانية. وهي تصور فلسفي معاصر يتطابق تماماً، بل ربما أسّس لكل نزعات الحرية وحقوق الإنسان في يومنا هذا».
المحاضرة الثانية كانت لنادر البزري بعنوان: «مقدّمات لفلسفة جماليات فن وعلم العمارة من المنطلق التكنولوجي». اعتبر البزري أن هذا المبحث يركز على إعمال النظر في المقدّمات الفلسفية التي نحتاج إلى تدبر في حيثياتها من باب معالجة آفاق تطوير فلسفة الجماليات في فن العمارة، وتحديداً من منطلق التأطير التكنولوجي للوجود الإنساني في عصرنا، وربما لظواهره من تعيينات عينية في الواقع المادي. ورأى أن ماهية الجماليات تترابط مع الإدراك الحسي، وما يرافقه من معطيات ذوقية وشعورية، وما لهذه من تداخلات مع متعة التخيل من منطلق محمولات واعتبارات فكرية تتطلب مقاييس للنظر في مواطن الجمال في الطبيعة، والكشف المعرفي عن مكنوناتها، أو إخراجها عبر العمل الفني.
وأشار إلى أن للذوق دوراً مفصلياً في الجماليات، وهو بمثابة معطى شخصي ينتج عن الحكم التأملي، ويلازم ملكة الفهم في تقييمها للمفاهيم الحسية المصدر. ولفت إلى أن أحكام الجمال يمكن أن تفشل في أن تكون نقية وصافية، فتخالطها مصلحة الحفاظ والاستحواذ على الأشياء الجميلة، وأحكام الجمال يمكن أن تتأثر بالجاذبية الحسية أو العاطفية نحو الكائن الجميل...
ورأى البزري أن التركيز على التقدير الجمالي عبر الاستقلال الذاتي للفن، يتداخل مع افتراض انتقاد السيرة الذاتية لأنشطة الفنان وتجربته من باب النوايا المتضمنة في صنع هذا الفن، وتفسير تفاصيل إنشائه كعمل فني متجانس.
واعتبر أن علم الجمال يدلل على أن التجربة الفنية وسيلة معرفية قد تفصل أحياناً شؤون التأمل بالظواهر الجمالية الطبيعية عن حيثيات الدراسة التقنية للأعمال الفنية وتقييمها النقدي. كما تركز الجماليات الحديثة بالمجمل على النظر في ماهية الفن أكثر من دراستها الرومانسية للظواهر الجمالية الطبيعية، أو في سير حقائق التجارب والأحكام الناتجة عن التفاعل مع الجمال الطبيعي من باب التأمّل الحسي لمحفزاته الفاعلة في نفس المتلقي له.
وأشار إلى أن الجماليات الفلسفية لا تتطرق فقط إلى الفن، أو تصدر حصراً أحكامها على الأعمال الفنية بل تجتهد في تعريف ماهية الفن ككيان مستقل عن الفلسفة، كون الفنون تعامل مع الحواس في تأصيلها لعلم الجمال... فالفنون معارف وأعمال، والجماليات ظواهر حسية تتفتح نظرياً وتطبيقياً ضمن بيئات مادية واجتماعية وثقافية تحدّد ممكناتها.
ولفت البزري إلى أن الذوق كمعطى أساسي في التقدير الجمالي ليس هو في ماهيته مجرد القدرة على اكتشاف جميع المكونات التشكيلية أو البنيوية في تركيبة ما، ولكن هو تمظهر مرهف لتأثير الملذات الحسية في الإمتاع على الحاكمة التمييزية النفسية. وتطرق إلى المحاولات المختلفة التي بُذلت في سبيل تحديد جماليات ما بعد الحداثية وما بعد المدرسة البنيوية من باب تحدي افتراض الجمال كأساس لتقييم الفن الأصيل، بعيداً عن الطريقة التي كان يعتقد فيها أن الجمال واجب مركزي في إنتاج العمل الفني.
ولفت البزري إلى جهود جادّة مبذولة في الفلسفة المعاصرة من أجل تطوير نظرية صارمة لعلم الجمال، مع التركيز على المفاهيم الجمالية السامية... ورأى أن النظر في مسألة الهندسة المعمارية كحقل من حقول الجماليات له تواصل عميق مع المظاهر التي يتطرق إليها عمل الجمال بذاته. ويرتبط تاريخ التصميم المعماري وتطبيقاته ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الفنون البصرية والتشكيلية، بالإضافة إلى تقاطعه النظري مع تاريخ العلوم والفلسفة.
وختم نادر البزري بالقول: «إن الإفراط في التشكيل التكنولوجي للعمارة، وفي كيفية التحكم بأنماط مسكننا على الأرض، من خلال تأطيرنا كاحتياطيات من الطاقة، وكموارد جاهزة للاستخدام والتحكم بها، دفع بعض رواد العمارة في دراستهم للفلسفة إلى العودة إلى شاعرية تكوين الفضاء المعماري للمسكن... ويتلازم هذا المسلك مع توجهات مماثلة في ربط الفنون والجماليات بمثل هذه الظواهر الوجودية للنظر في طبائع كينونتنا الإنسانية وحيثياتها الدنيوية، بالأخص في عصر التغير المناخي الراهن وما ينتج عنه من خطر بيئي فعلي».