الكاميرات كانت هناك منذ الليلة الأولى. هكذا وصلت ألسنة النار إلى شاشاتنا، فدلّتنا إلى شارع الانتفاضة. في حالات كهذه، نقول بلا مبالغة بأن الصور صنعت شارعاً بصريّاً موازياً فاق أحياناً وقع الشارع الحقيقي... وبأن الشارع حين يهبّ ويتمرّد، عندها فقط يستطيع أن يبلغ هالة الصور التي احتلّت شاشات الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي. الكل فتّش عن مساحة ما وكتب عليها، ثم أتى آخر واكتشفها وصوّرها. وغالباً، كان علينا أن نقرأ العبارات في الصور قبل المضي في البحث عنها على الجدران. اللبنانيون سيطروا على المشهد البصري للانتفاضة. كميّة هائلة من الصور صنعت دليلاً للشارع وفق عدسات المتظاهرين أوّلاً، وللمصوّرين الصحافيين والفنيين. كان ذلك انتصاراً للمشهد وحده ولعيون الناس، بلا سلطة لأحد، بعدما بدّلوا على مدى أيّام من مشهد الشارع نفسه.
عمر صفير

من كان سيحفظ منظر الواجهات والجدران لولا الكاميرات؟ كيف كانت ستنجو بعض العبارات من طلاء من يتسلّل في الظلام لمحوها؟ من صور الشارع، جاءت فكرة المصوّرة والقيّمة الفنيّة ومديرة «مركز بيروت للتصوير» شانتال فهمي لإقامة معرض «انتفاضة» Revolt الفوتوغرافي الذي افتُتح أمس أمام مبنى البيضة أو «السيتي سنتر» سابقاً. بدعم من جمعيّة APEAL (الجمعية اللبنانية لتطوير وعرض الفنون) وبالتعاون مع «مركز بيروت للتصوير» (BCP)، تُعرض أكثر من 20 صورة فوتوغرافيّة بالحجم الكبير (يتجاوز المترين) على حدائد وعواميد الجدران السابقة التي كانت تحيط بالمبنى الذي شيِّد عام 1965 وتحوّل إلى أحد الرموز العمرانيّة للحرب الأهليّة. أمام هذه الكميّة الهائلة من الصور، أرادت فهمي التركيز على اللقطات الفنيّة بما يتجاوز سمتها الحدثيّة والتوثيقية. قد تكون هذه أولى خطوات صناعة وحفظ أرشيف انتفاضة 17 تشرين البصري الهائل. انطلاقاً من هنا، اختارت فهمي أعمالاً لـ 11 مصوّراً ممن رافقوا بعدستهم التظاهرات هم بدر صفدي، والياس مبارك، وإميلي ماضي، وحسين بيضون، وجاد صيقلي، وجنى خوري، ولارا تابت، وملاك مروّة، وعمر صفير، ورودي بو شبل، والزميل مروان طحطح. في الباحة التي كانت موقف سيّارات قبالة شارع رياض الصلح وساحة الشهداء، حيث لا يزال المتظاهرون يحتلّون المكان، سيتمكّن هؤلاء من رؤية الصور التي تتوزّع بين لحظات إنسانيّة التُقطت على هامش الأحداث، وأحياناً نقّب فيها المصوّرون عن لقطات جمالية تفصيلية معزولة عن السياق العامّ، بالإضافة إلى صور أخرى من قلب الحدث.

(مروان طحطح)

بيروت بشكل عام هي المكان الأساسي، بعدها، تأتي ساحة النور في طرابلس التي خطفت الأنظار منذ اليوم الأوّل للانتفاضة، فيما هناك بعض الصور من التظاهرات في جونية، غير أن الأمر يحتاج إلى جهد جماعي للوصول إلى العدد الأكبر من الصور في المناطق الأخرى. تذهب بعض العدسات إلى ابتكار مشهدها الخاص. المصوّرة ملاك مروّة تبحث عن آثار الضرب على الأجساد، فيما يلتقط عمر صفير صورة لقبلة بين متظاهرين تذكّر بلوحة القبلة لرينيه ماغريت، إلا أن العاشقين يلفّان وجهيهما بالعلم اللبناني. لارا تابت تقتفي ظلال المتظاهرين على الطرقات... وإذ اختارت فهمي لقطات فنية للمصوّرين، إلا أن بعضاً مما انتقته أخذ بعدسات الهواتف أيضاً. حدّد أمس موعداً لانطلاق المعرض، إلا أن الصور ستبقى معلّقة في الساحة إلى وقت غير محدّد قبالة التظاهرات الحقيقية والمتحرّكة. شانتال التي تنجز رسالة الماجيستير حالياً حول الفن في الفضاء العام بعيداً عن مركزيّته، وجدت في الانتفاضة الفرصة المثلى للقيام بذلك من خلال معرض جماعي يخرج الفن إلى الفضاء العام الذي سيحتضن أيضاً لقاءات وأحاديث مع بعض المصوّرين المشاركين. يضاف معرض «انتفاضة» إلى فعاليات فنية كثيرة شهدتها الساحات أخيراً، خارج مركزية المؤسسات الثقافية في العاصمة التي أعلن عدد منها إقفال أبوابه خلال الثورة. مع ذلك، استمرّت العروض.
اختارت شانتال فهمي أعمالاً لـ 11 مصوّراً ممن رافقوا بعدستهم التظاهرات منذ البداية

لا نقصد فقط فنون الشارع التي تنشأ في العادة من لحظات كهذه ومن تفاعلها مع المحيط مثل الغرافيتي والشعارات والأغنيات التي كانت تؤلّف وتغنى في التظاهرات. إنما هذه لحظة يحاول فيها الفن المؤسساتي أو الرسمي الالتحاق بالشارع، متحرّراً من جدرانه ومنقاداً إلى الانتفاضة التي تسقط مفاهيم وتعيد ابتكار أخرى جديدة لكلّ شيء. هذا ما أعلنه المتظاهرون صراحة في بعض الشعارات التي رفعت وتلك التي ملأت الجدران. قليلون هم من مروا في شارع رياض الصلح من دون التنبّه لعبارة تطالب بإسقاط الفن المعاصر. لافتة أخرى أعلنت أن «جنّة الشعراء منازلهم» في سخرية من الصالونية الشعرية المعزولة. لا يمكن أن نفهم هذه الشعارات إلا تصدياً للخطاب الذي لم يستطع، لأسباب كثيرة، طوال سنوات، الوصول إلى الناس، بل نجح فقط في الحفاظ على قلّة قليلة من المتفرجين الذين تتكرّر وجوههم في كلّ المهرجانات والعروض في العاصمة. أخيراً جاء من أعلن ما كان يُردّد ويقال دائماً في الأروقة الخلفية للفعاليات الثقافية.

جنى خوري


لارا تابت

إذا كانت هذه اللافتات والعبارات تطالب بشيء، فهو التخلّص من الجدران المقفلة ومن الذائقة الماديّة والسلطوية التي تحرس الفن. رغم أن بعض الجمعيّات، لم تستطع مغالبة رغبتها في العودة إلى الداخل، من خلال لقاءات وندوات أقيمت داخل مبنى البيضة، لكن ذلك لم يستمرّ طويلاً. إذا تناسينا ـ رغم صعوبة الأمر ـ الأغنيات المكرّرة التي تعاد وتسيطر على صوتيات الساحات، فإن الماشين سيتبعون في كثير من الأحيان أصوات آلات وأغنيات يؤديها الموسيقيون مباشرة مع الناس في الشارع، الذي شهد أيضاً حفلات أقامتها فرقة «الراحل الكبير» الأسبوع الماضي، ومغنيا الراب «الراس» وجعفر الطفار. وفي انتظار أن يتبلور المشهد الفني العام الذي يحتاج إلى توثيق جدّي، فإن نظرة شاملة عليه، تفضي إلى أن الانتفاضة الشعبية انتصرت للفن من خارج البرمجة السنوية للمؤسسات الفنية والغاليريهات، في الشارع وحده هذه المرّة.