ليل الخميس 17 تشرين الأول (أكتوبر)، قيظ النهار التشريني لم ينتهِ بعد بفضل الاحتباس الحراري. نزلنا إلى الشوارع لأن مسيرات فقراء المدن، مشياً أو على دراجاتهم النارية، خرجت اعتراضاً على القهر اليومي. نزلنا بعدهم، نزلنا بسببهم، هم بدؤوا الانتفاضة الحالية، وهم عصب الثورة القادمة؛ والانتفاضة إن اندلعت في أي مكان، فهي تأخذ شرعيتها من وجودهم، وتهزّ كراسي الحكم بأصواتهم. بعد ستة عشر يوماً من بداية الانتفاضة، تغيّر المشهد. فالهجمات التي تمّ تخطيطها وتنفيذها على المعتصمات والمعتصمين بين رياض الصلح وجسر الرينغ، ظهرت لتؤجّج ما يبدو أنه صراع طائفي- طبقي: اعتراض الفقراء على إغلاق الأغنياء لطرقات عملهم من جهة، ومحاولة زعماء الطوائف مجتمعين، الالتفاف على زعماء الطائفة الشيعية. سردية النظام البالية هي. يعلم النظام جيّداً كيف يحارب الانتفاضة، ويعلم أيضاً من يجب عليه أن يؤلّب على من، ومن يستخدم ويستغلّ أكثر.يفصل جسر الرينغ بيننا وبينهم، كجدار عازل بين «الثورة» وأهل الخندق الغميق. بعدما كانوا الجزء الأساسي من الانتفاضة، أعادهم خطاب التخوين إلى بيوتهم. وكما تعمل الصدفة أحياناً لتسخر منّا، تَصادف أن تسمّى منطقتهم «الخندق الغميق»، الخندق الذي انسحبوا إليه فزاد عمقاً وازداد بهم فقراً. يعالج هذا النص العلاقة الطبقية والسياسية التي تربط بين «المندسّين»، وباقي المتظاهرين كما بينهم وبين زعماء الأحزاب.
قد لا نرى هذا الجسر-الجدار بيننا، لكنهم يرونه، فترف الأكثر امتيازاً هو عدم الشعور بالفارق الطبقي، أو إخفاؤه داخل تعابير أخرى يحملها المجتمع والإعلام. هم «غير»، «شراشيح»، «مش مرتّبين»، و«زعران» -المصطلح الأكثر دلالةً بما يحمله من تعبير ضمني عن صفات إجرامية وممارسات خارجة عن القانون. والأهم في هذه التسمية هو تغطية الفارق الطبقي بفارق قانوني، أي بدلاً من طرح وجودهم كتظهير لواقع طبقي، يصبح وجودهم تهديداً أمنياً.
في حراكنا السياسي، عرفناهم منذ عام 2015، وتكلّمنا معهم مراراً وتعارفنا وبات بيننا صداقات. هم أصلاً يعتبروننا غريبين عنهم، ونحن نعي ذلك. لا يسمّونها طبقة، لكنهم يحسّون وبشكل فطري، بذلك الفارق القائم بيننا وبينهم، في الراحة التي نحسّ بها خلال مشينا في الشارع، في غياب الحكم من عيون الناس، في ابتسام المارة لنا، وفي سماح الدركي المتأفّف من ملل نهار طويل، سماحه لنا بالمرور من دون تفتيش، مع ابتسامة أو مزحة أو نظرة إعجاب. هم يرون كل ذلك، ويرون أيضاً، كيف تتعامل السلطة معهم، يومياً أو في المظاهرات، وكيف يراهم المجتمع ويتعامل معهم. وجودنا معهم في نفس «الخندق» لوهلة، هو اغتراب لهم، خاصة أنّنا، إن بفضل تجربة سابقة في التنظيم السياسي وتنظيم المظاهرات، أو بسبب كل الامتيازات التي تملكها طبقتنا هذه، نستطيع ببساطة اختلاق مساحة لنا للاعتراض وتحديد شكل هذه المساحة وراء الحدود التي تسمح بها القوى الأمنية.
لكن ما حصل في الأيام الأخيرة، وبعد موقف «حزب الله» من تخوين الانتفاضة وأهدافها والمشاركين فيها، دُفع بهؤلاء إلى الواجهة مجدّداً، إلى الخندق المقابل، بصفتهم اليد الضاربة للطبقة الحاكمة. في «غزوات» متعدّدة على مواقع الاعتصام في وسط بيروت وعلى جسر الرينغ حيث أغلق المتظاهرات/ون الطريق، نفّذ المعدمون أمر الحزبَين الحاكمين على الطائفة الشيعية، بالانقضاض على المعتصمين. كانت صرخات الغازين تعبّر عن ثلاثة أمور: التعريف أو الهوية الطائفية، حماية الزعيم/ الأيقونة، والدعوة إلى فتح الطريق. «هذا الطريق يصل إلى أشغالنا» قالوا، أو قيل لهم فردّدوا.
تأتي الفكرة الأولى من حيث أن النظام، أي الأحزاب التي تتحكم بمصائر أهل كل طائفة، وضعت نفسها بين الجماعة تلك والمعرفة/ الوعي السياسي، تماماً كما يضع رجل الدين نفسه مترجماً مفسّراً للكتب، ووسيطاً بين البشر والآلهة. وفي ترجمة المعرفة والواقع، مجال واسع للتدخّل والتفسير وتحوير الحقائق لمصلحة المترجمين. وبما أن المترجمين هؤلاء بحاجة للحفاظ على مواقعهم في تسيير الوعي، فهم يصنعون من أيّ عداوة تجاههم، عداوة تجاه الجماعة بوصفها مجموعة طائفية. والفكرة الثالثة، وهي الأكثر ركاكة في الطرح، هي أن الاعتصامات والمظاهرات والطرق المقطوعة توقف عمل أبناء وبنات المناطق الفقيرة (ملاحظة: اعتصام رياض الصلح وساحة الشهداء لا يغلق إلا الطريق المؤدّي إلى ومن شارع المصارف وحتى الأسواق المعاد ترميمها. هل يقول لنا المعترضون من فقراء بيروت والجنوب أنهم يعملون في شارع المصارف أو في الأسواق؟)
حين وصف كارل ماركس العلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية بالديالكتيكية، أشار إلى أن البنية الفوقية تشرّع البنية التحتية من جهة، فتهيّئ البنية الفوقية الظروف التي تبدو عبرها علاقات الإنتاج عادلة لا بل طبيعية، بينما تختلق علاقات الإنتاج والقوة مفاهيم يتمّ التعاطي معها كأنها الحقيقة أو «المنطق» الـ common sense بالمفهوم الغرامشي، من جهة أخرى. في إطار تطويره للعلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية، طوّر انطونيو غرامشي مفهوم الهيمنة الثقافية. وتعمل هذه الأخيرة بالأساس، بحسب غرامشي، عبر توظيف ما يجري لمصلحة الطبقة الحاكمة، أي عبر تظهير خطاب ومواقف ومصالح الطبقة الحاكمة على أنها محقّة وعادلة وحقيقية وبأن هدفها مصلحة الجميع. فتقبل الجماعات (وخاصة الطبقة العاملة) حكم البورجوازية، لأن هذه الأخيرة تعمل على نشر أيديولوجيتها، أي تربية الجماعات وتعليمها (مدارس، إعلام، إلخ) لتشرح كيف يعمل النظام من أجل مصلحة «الجميع» وبأن أي مشكلة أو ثغرة في النظام هي نتيجة تخاذل البعض أو عدم احترامهم للقوانين أو «فسادهم». وتبلغ الهيمنة الثقافية أوجها، حين تعتقد الطبقة العاملة والمهمّشين/ات بأن الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشونها سببها طبيعي ولا مفرّ منه، بدلاً من قراءتهم لمصالح الطبقة الحاكمة التي تخلق الظروف هذه. وفي حالة فقراء المدينة الهاجمين على المتظاهرين، نتحدّث بالذات عمّن يسمّيهم ماركس الـ lumpenproletariat، أي الطبقة العاملة غير المنظّمة والمغرّبة عن الوعي الطبقي، غير القادرة بعد على فسخ علاقات التبعية التي تربطها بالطبقة الحاكمة. إذ لا تزال تعتبر مصالحها مرتبطة بمصالح هذه الأخيرة.
تظهير خطاب ومواقف ومصالح الطبقة الحاكمة على أنها محقّة وعادلة وحقيقية

هكذا، تدفع السلطة الحاكمة بالأفراد المنتمين لهذه الجماعة، بالنزول إلى الشارع ضد حليفهم الطبقي، للدفاع باستماتة عن نقيضهم/ عدوهم الطبقي، ثمّ تتخلّى عنهم سياسياً باعتبار أنهم أفراد «غير منضبطين» لا ينتمون لها، نزلوا من دون أوامر حزبية، بل بسبب الغوغائية الطبيعية الملتصقة بطبقتهم. والمشكلة أنهم ينزلون ضد مصالحهم هم، كطبقة، ضد أنفسهم، لأن الارتباط بالحزب/ الزعيم أقوى من الارتباط بالمصلحة الطبقية.
نجد أنفسنا – كماركسيات/ين من الطبقة «الوسطى» ـــ أمام مشهد يقول بأن الفقراء يكرهوننا، أي أن الانتفاضة ليست لهم أو بأنهم ليسوا مشاركين فيها، فتلبس الانتفاضة عباءة الطبقة الوسطى وتصبح بمطالبها كأنها انتفاضة من لم يفقد كل شيء بعد. لكن ما يحصل اليوم هو فصل مقصود لجزء من هذه الطبقة المهمّشة المحرومة المسحوقة عن الانتفاضة.
يفصل جسر الرينغ بيننا وبينهم. ولكنه أيضاً يفصل بينهم وبين سوليدير وأهلها. والخيار بين من يرونه عدوهم اليوم ومن هو عدوهم الحقيقي، بعيد ليس بمسافة الوعي فقط، بل بمسافة الارتباط الاقتصادي بالحزب الطائفي الذي يعمل لمصلحة الطبقة الحاكمة. اليوم أصبح جزء منهم خارج الانتفاضة، في الخندق الآخر. ونحن في الشارع، نقطع جسر الرينغ كل يوم، ونمدّ جسوراً نحو الخندق. فالثورة إذا كانت ستأتي يوماً، فهي لا تكون إلا عبرهم.