القاهرة | من بين كل مظاهر العنف التي اجتاحت بلدان الربيع العربي، من تونس ومصر 2011 إلى السودان ولبنان 2019، تظل النار رمزاً ولغزاً غامضاً، يبدو عصياً على التفسير. في كل مكان يندلع فيه الغضب، تشتعل الحرائق في المنشآت والسيارات وأجساد المشتبكين. وفي معظم الأحيان تمارس ألسنة اللهيب هوايتها في الامتداد والارتفاع وسط جمهور مأخوذ يحدّق بفرح أو رهبة، أو الاثنين معاً، كما لو كان يشاهد راقصة شرقية من الجان.منذ مشهد حرق التونسي بوعزيزي لنفسه، وقيام بعض المصريين بفعل الشيء نفسه أمام مبنى مجلس الوزراء، واندلاع النيران الأسطوري في أقسام الشرطة ومقر الحزب الوطني ومدرعات الداخلية يوم 28 يناير 2011... من يومها لا تكفّ مشاهد الحرائق عن الظهور في عالمنا العربي، ولا تكف عن إثارة المشاعر في نفوس الثائرين والخائفين من الثورة، في ظاهرة أنثروبولوجية تحتاج إلى تأمل.
خلال الأشهر التي أعقبت الثورة المصرية، ظلت قنوات التلفزيون تنقل وقائع الحرائق، وتنصب كاميراتها على النيران المندلعة في الساحات: مبنى يشتعل حتى يتحول إلى كومة تراب، قنابل مولوتوف تطير في الظلام وتصيب الهدف مثيرة كتلةً كبيرةً لامعة من الضوء... ذات يوم، دار حوار حول ميل القوى الثورية لتنظيم مظاهراتها في أوقات متأخرة من اليوم، ما يجعل أغلبها يمتد حتى الليل، فقال أحد المشاركين في الحوار باسماً: «منظر المظاهرات في الليل أجمل بكثير»!
على العكس من مظاهرات القوى المدنية، كانت مظاهرات «الإسلاميين» دائماً ما تبدأ مبكراً وتنتهي قبل غروب الشمس. هؤلاء قوم أرضيون ريفيون، بحكم الأصول والميول، يفتقدون للإحساس بالجمال الذي يتمتع به «المدنيون». النار أيضاً تحب الليل، حيث تكون أكثر شاعرية من نيران النهار التي توحي بالجفاف والخراب.
من بين عناصر الطبيعة الأربعة، فإن النار أكثرها امتلاءً بالمعاني المتناقضة. الحب والحرب، الحب والكراهية، الخير والشر، الجنة والجحيم، دفء البيت والعائلة، وسعير الوحدة والهجر، لكن المعنى الثابت الذي لا يحتمل عكسه في ما يتعلق بالنار هو الحركة، السرعة والتغيير.
في التفسيرات الشعبية للأحلام، تظل النار محببة طالما لم تحرق الحالم. أن تحلم بأنك تضرم النار، فهذا بشير نجاح أو سفر موفق. أن تحلم بأن بيتك يحترق، إشارة إلى أنه سيكون لديك أبناء صالحون. أن تحلم بمحل عملك يحترق، فأمامك تقدم كبير ينتظرك. الشرط الوحيد هو ألا ترى البيت أو المحل وقد تحول إلى أنقاض بعد الحريق.
في معظم الأديان، ارتبط معنى النار بقوّتيها التدميرية والنافعة. في العقيدة الفرعونية، تكمن النار في ثعبان الكوبرا وفي عين رع، إله الشمس، التي تنفث النار. الشمس جاءت من «جزيرة النار»، والشعلة هي رمز التطهير والنقاء، فهي التي أبادت إله الشر ست، وهي التي تطرد الأرواح الشريرة. في العالم الآخر، تُشعل النيران من أجل تطهير المتوفى من دنس الأرض، والميت يمكنه الانتصار على قوى الشر إذا استطاع تحويل نفسه إلى شعلة قاذفة.
في الثقافة العربية، النار رمز للكرم وإعلان الترحيب بالضيف عندما يشعلها أهل الدار ليلاً ليراها المسافرون. لكنها أيضاً رمز للحرب حين يشعلها المتحاربون كإعلان للعداء. وهي كذلك رمز للتحالف حين يقسم المتحالفون أن تحرق النار مَن يخون.
وبينما تجعل الأسطورة الإغريقية من بروميثيوس، الذي يسرق النار من الآلهة ليعطيها للبشر، بطلاً، فإن الأسطورة العربية تجعل من خالد بن سنان، الذي يطفئ نار البركان، مضحّياً بنفسه في سبيل ذلك، بطلاً. إذا كانت النار عند العرب تنتمي أكثر إلى العالم السفلي، المعدن الذي خلق منه إبليس والجان، ورمز المعصية والشر والخطيئة، فإنها تميل في الغرب إلى العالم العلوي، المطهر والنور والدفء الحنون. طبيعي أن تكون النار في بلاد الحر القائظ أمراً مكروهاً، بينما تكون وسيلة حياة في بلاد البرد الشديد.
النار هي أيضاً رمز كوني للخصوبة والجنس. الشباب الملتهب حماساً وهو يندفع مثل حيوانات منوية بأقصى سرعة ليلقي زجاجات المولوتوف القضيبية ضاجاً بالهتاف والفرح حين تصيب هدفها، صورة لا تحتاج إلى تحليل إضافي. علاقة النار بالجنس قد لا تحتاج إلى براهين، ولكن علاقة النار بالخصوبة ربما تحتاج إلى أمثلة. في أوروبا الريفية، كان الفلاحون يحمون القطعان من الأوبئة بتمريرها بين نارين على الجانبين. في العالم العربي تمر المرأة العاقر فوق النيران مرات عدة لتلتقط شرارة الخصوبة المفقودة. في أنحاء العالم، يقوم الفلاحون بحرق الأرض الزراعية المهجورة، أو قبل زراعتها من جديد، للقضاء على الحشرات والأوبئة وتخصيبها بالمواد العضوية الناتجة عن الحريق.
في مسرحية «مشعلو الحرائق»، يرسم الكاتب السويسري ماكس فريش صورة خيالية تشبه ما يحدث في العالم العربي الآن. تدور المسرحية حول مدينة يظهر فيها مجهولون يزورون بيوت الأغنياء ومتاجرهم ويضرمون فيها النيران. الإقطاعي الذي يزورونه في المسرحية، يحاول التحايل على ضيوفه وإقناعهم بأنه شخص طيب وكريم، ومشعلو الحرائق يوهمونه بأنهم يصدقون احتياله، وهو يوهم نفسه أنهم يصدقون، إلى أن يقوموا في النهاية بإحراق المنزل بمن فيه.
هذه المدن الفاسدة المخادعة التي تحنّ إلى الاحتراق عن بكرة أبيها لتتطهر، وتولد من جديد، هي أقرب إلينا من حبل الوريد.