تأتي «المعلقتان» من أفضل المسرحيات المعروضة حالياً في بيروت. يحسب ذلك بدايةً لمهارة «نصها» حيث بذل حسن مخزوم جهداً لإصداره بهذا السبك والجمالية والقدرة على قول الكثير في وقتٍ غير طويل نسبياً (ساعة مدة المسرحية). الكاتب القادم من عالم القانون (درس القانون في جامعات فرنسا ويعمل كباحث في المجال) يتمتع بثقافةٍ واسعة، فقرر أن يصبح في لحظةٍ ما «كاتباً مسرحياً». هو يفسّر الأمر على طريقته عند الحديث عن دخوله عالم المسرح: «درستُ القانون، لكنني أحب الكتابة. ويجب أن أشير إلى أنه لا فعل ثقافي غير المسرح في لبنان. ثم إنني أردتُ أن أبدأ من مكان ما». يشير الكاتب الشاب سريعاً إلى خبرته المسرحية التي حصّلها من القراءة قبل أي شيء: «كنت باحثاً قانونياً في فرنسا. وأجريتُ أبحاثاً في القانون الدولي. أغلب قراءاتي كانت في الفلسفة والتاريخ. لكن منذ فترة، أضحت كل قراءاتي عن المسرح. قرأته على مدى سنة كاملة قراءةً كثيفةً. بعد ذلك قررت أن أكتب رواية. لكن لقائي بلينا عسيران (مخرجة المسرحية)، وهي مخرجة وممثلة وعضو ضمن Collectif de l›ACT (مجموعة من الشباب يشتغلون بالمسرح) قلب الأمور. إذ كانوا يبحثون عن نصٍّ مسرحي وراهنوا عليّ، وانتظروني لأربعة أشهر، فأصبحت ملزماً بأن أقدم لهم نصاً بعد ذلك الانتظار، وحصل ذلك. قدمته لهم، فأعجبهم وقبلوه».
تروي القصة حكايةً غير معقدة: فتاتان (تؤدي دوريهما يارا زخور وسارة عبدو) تعلقان في المصعد الذي «يشكّل العنصر الفانتازي في العمل» وفق ما يقول مخزوم قبل أن يضيف: «أما الحكاية، فتبدأ مع فتاة ذاهبة الى «كاستينغ» مسرحية عن دور شاعرة انتحرت. هذه الفتاة متفائلة، وليست ساذجة لكنها تسأل دوماً عما لا تعرف وهو كثير. تقرأ كتب الـself help كثيراً. يعلق المصعد فيها مع شخصية موجودة منذ مدة طويلة فيه، حتى نسيت إنّها هناك». يشارك في المسرحية ثلاثة ممثلين هم بطلتا العمل (زخور وعبدو) الموجودتان دوماً على الخشبة، فيما الشخصية الثالثة تظهر وتختفي هي شخصية «العامل التقني المسؤول عن إصلاح المصعد». وقد أداها بطريقة جميلة ــ وإن كان ظهورها قصيراً على الخشبة ـــ الممثل طوني فرح. يمكن القول بأنّ المخرجة لينا عسيران وفقت في اختيار أبطالها، إذ نجد بطلتين على خشبةٍ واحدة لا تتنازعان النجومية/ الضوء. في المعتاد، يكون أحد الممثلين (خصوصاً في المسرحيات الثنائية) أكثر بروزاً ووضوحاً من نظيره على المسرح. لكن الملفت في «المعلقتان»، أنهما تتبادلان قوة الدور والأداء وحتى الشخصية في لحظات ما؛ وهذا يحسب لهما كثيراً. في لحظةٍ ما خلال المسرحية، تصبح إحدى الشخصيات قلقة، فتصبح الأخرى الـ comic relief. وفي اللحظة التي تليها تقلبان الأدوار بسلاسةٍ مطلقة.
إخراجياً، وفقت لينا كثيراً في اختيار الممثلين، كما وفقت في اختيار نصّ يجمع بين الدراما المباشرة والكوميديا السوداء. من جهةٍ أخرى، لعب الديكور المسرحي المينيمالي دوراً في جعل المشاهد مشغولاً بالبطلتين فحسب، ومهتماً بالنص أكثر من أي شيء،؛ وهذا يحسب للمخرجة والكاتب بالتأكيد. ويمكن اعتبار نص حسن مخزوم مع رؤية لينا مزيجاً جميلاً يمكن المراكمة عليه في مسرحياتٍ قادمة. وإذا ما أضفنا أداء يارا وسارة إلى العمل القادم، فنحن بالتأكيد أمام حرفة عالية. أيضاً من الأمور الجميلة في العمل وجود المؤلف والعازف الموسيقي علي صبّاح (هو يعزف على ثمان آلاتٍ في العمل) بشكلٍ مباشر في العرض.
ولأن جزءاً من قوة المسرحية قادمٌ من كونها ذات «نص» متميز، يجب الحديث عن فكرة «الشعر» الذي تلقيه البطلة (تؤدي دورها يارا زخور). فهو في الأساس -بحسب النص- قصائد حفظتها البطلة لتأديتها في اختبار الـكاستينغ الذي كانت آتية من أجله، والدور في الأساس هو حول «شاعرة منتحرة». لذلك فإن الشعر يأتي مسبوكاً بعنايةٍ شديدة، وفي هذا يشير كاتب المسرحية: «هذه القصائد النثريّة و الخواطر الشعرية حفظتها البطلة -بحسب المسرحية- لأداء الدور. أنا كنتُ قد ألّفتها وكتبتُها بلسان أنثى طبعاً لتناسب الدور. وهي تدور بفحواها حول الوجود والموت واللغة والبشر والوحدة والألم، وتتنزه البطلة ـ كما الجمهور ــ بواسطتها بين الواقع و الخيال، تخرجها من قوقعة المصعد/ الداخل إلى الضوء/ الخارج وتحرّرها من قانون الجاذبية». وقد بدت يارا زخور شديدة التأثر أثناء تأديتها هذه القصائد، حتى لتشعر أنها فعلاً تلك الممثلة الباحثة عن هذا الدور في العمل.
يمكن الحديث كثيراً عن مسرحية «المعلقتان»، ففيه من الحرفة الكثير: النص متماسك وموزون، الحرفة الإخراجية عالية، الأداء التمثيلي جيد. لكن ما يعاب على المسرحية هو «مكانها» وطريقة «جلوس» المشاهدين. إذ إن اختيار المخرجة لمكان العرض (قاعة «مونو» الصغيرة) «حشر» المشاهدين، مما منع رؤية كثيرين من رؤية العديد من مشاهد المسرحية لأن «كراسيهم» لا تطل على المشهد. وهذا ربما هو الخطأ الوحيد في العرض. لكن العتب ليس على صنّاع العمل، فهذه المسرحية غير ممولة من أحد، وقائمة فقط على «التمويل الذاتي» و«شباك التذاكر». من هنا يمكن فهم لماذا اختاروا «مسرح مونو» (بقاعته الصغيرة).

* «المعلقتان»: 19:30 أيام الجمعة والسبت والأحد ــ «مسرح مونو»