كان أول ما فعله جنود الاحتلال الأميركي لبغداد (2003) فتح أبواب المتحف الوطني العراقي للغوغاء واللصوص الذين نهبوا كنوزه النفيسة، بقصد تدمير الذاكرة ومحوها من الجذور. لكن هذه الفوضى أبقت على «نصب الحرية» الذي صمّمه رفعت الجادرجي، وكُلّف جواد سليم بإنجاز جدارية لهذا النصب (1961)، سوف تكون هذه الجدارية علامة فارقة في ساحة التحرير، أحد أشهر ميادين العاصمة إلى اليوم. مات جواد سليم بسكتة قلبية وهو يضع اللمسات الأخيرة على جداريته (1961)، إلا أن اسمه سيبقى خالداً كواحد من روّاد الحداثة في الفن التشكيلي العراقي، بصحبة كوكبة من التشكيليين العائدين للتوّ من عواصم الفنون في العالم مثل فائق حسن، وشاكر حسن آل سعيد، ومحمود صبري، واسماعيل الشيخلي، ونوري الراوي، وآخرين.
«نصب الحرية» لجواد سليم

في خمسينيات القرن المنصرم، شكّل هؤلاء «جماعة الروّاد» التي ترأسها فائق حسن، فيما سيؤسس جواد سليم «جماعة بغداد للفن الحديث» (1951)، وتبعتهما «جماعة الانطباعيين» التي أسسها حافظ الدروبي (1953)، لتتناسل التجارب اللاحقة بنفحة حداثية لن تقطع علاقتها مع الجذور الحضارية الأولى، باستلهام فنّ المنمنمات والحروفية والفن الإسلامي. هكذا ازدهر المحترف العراقي بتياراته المتعددة بتأثير فنون بلاد الرافدين من جهة، وطليعيّي الحداثة الأوروبية من جهةٍ ثانية. كما كان لتأسيس «معهد الفنون الجميلة» أن استقطب جيلاً آخر، لتكتمل أركان المحترف في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، بالتوازي مع حركة نقدية لافتة واكبت هذه التجارب، وخصوصاً كتابات جبرا إبراهيم جبرا. كان فائق حسن (1939 ــــ 1992) المدماك الأساسي للواقعية في المحترف العراقي، فهذا التشكيلي الرائد الذي بدأ محاولاته الأولى فطرياً، قبل أن يحصل على منحة ملكية لدراسة الفن في معهد البوزار في باريس، أدرك باكراً خصوصية اللون الشرقي ودفء التراب المحلّي، ملخّصاً تنويعات التضاريس العراقية وتموجاتها في بورتريهات تنطوي على شغف بالبيئة الشعبية والصحراء وملامح الشخصية العراقية بطبقاتها المختلفة. توفي فائق حسن في باريس، وأوصى أن يحرق جثمانه ويحوّل إلى رماد ويدفن في بغداد. ليس بعيداً عن «نصب الحرية»، ستبرز أعمال أحد تلاميذ جواد سليم، هو النحّات محمد غني حكمت (1929 ــــ 2011) بنصب «كهرمانة»، بالإضافة إلى تمثال «شهريار وشهرزاد»، و«المتنبي»، و«حمورابي». وقد حملت منحوتاته روحاً سومرية، باشتغاله على الأشكال المستطيلة وأسلوبية الأختام الأسطوانية، قبل أن تنعطف نحو الزخرفة والتجريد الحروفي. وإذا كان جيل الرواد قد أتى كجماعة، فإن جيل الستينيات اتّكأ على الفردانية في تجاربه، بتأثير هزيمة حزيران 67، واعتنائه بالتقنية في المقام الأول، من دون أن يعلن قطيعته تماماً مع مقترحات جيل الرواد. بدينامية جديدة، أرسى جيل الستينيات قيماً لونية جديدة، وصاغ جماليات محليّة محمولة على قلق وجودي وروح قومية، وحفريات تراثية. فوفقاً لتعاليم جواد سليم، ينبغي للعمل الفني أن يحمل روح الحداثة من خلال هويته التاريخية، فيما ستذهب بيانات تلك المرحلة إلى التأرجح بين الدعوة إلى «تمزيق التراث» وإعادة صوغه على نحوٍ آخر، والانخراط بمقترحات التشكيل العالمي بحساسية محليّة تنطوي على وعي خلّاق، ينفض عنه غبار أنقاض الهزيمة. هذا ما انعكس عملياً في تجارب ضياء العزاوي، واسماعيل فتاح، ورافع الناصري، وصالح الجميعي، ومحمد مهر الدين، وآخرين.
تتجلى خصوصية ضياء العزاوي مثلاً في استلهام البعد الآثاري للوحة ومزجها بعناصر من الموروث الشعبي من دون أن يتخلى عن الغنائية العالية للون، إذ اعتمد على تجاوز الكتل اللونية إلى جانب مقاطع من القماش الشعبي المزين بالورود، وأحياناً «الخيش» كمقترح جمالي، لا يجد صعوبة في التماهي مع معطيات الحداثة. وهذا المزج بين الروح الشرقية والتجريد هو في المآل الأخير مسعى طليق لكتابة نص تشكيلي مفتوح على الاحتمالات والتأويلات والاختزال، مثلما ينبئ عن قلق خلاق في استنباط أبعاد جديدة لتعبيرات اللون وحركة الخط على خلفية شغله الغرافيكي الصارم. كأن ضياء العزاوي وهو يستعيد المشهدية التاريخية للعراق من «ملحمة جلجامش» إلى اليوم، يجد ذاته أسير الحزن التاريخي وخراب الروح، فيما تكشف أعمال أخرى عن هوس لوني يرتقي إلى حدود الشطح الصوفي كما في «كتاب الصحراء». وعلى ضفةٍ أخرى، تبزغ تجربة رافع الناصري الذي حرص على أن يجعل من عمله الغرافيكي والحروفي، كما يشير جبرا إبراهيم جبرا «عملاً يتوازى وهذه الروح الجديدة المتمردة في أكثر من بُعد ومغزى».
إذا كان جيل الرواد قد أتى كجماعة، فإن جيل الستينيات اتّكأ على الفردانية في تجاربه


وستشهد فترة السبعينيات تحولات عميقة في هذا المحترف، ليس كقفزة إلى الأمام إنما انتكاسة في الرؤى والتطلعات بتأثير إيديولوجيا السلطة ومفهومها للفن الملتزم. وإذا بمعظم تجارب هذه الفترة تنحو إلى تبرير تقنيات الملصق، على أن هذا الإكراه أدى إلى هجرة معظم تشكيليّي السبعينيات خارج البلاد مثل صلاح جياد، وفيصل وعفيفة لعيبي، ويوسف الناصر، وجبر علوان، في محنة جماعية ستعبّر عن ذات ممزّقة وانحيازات مضادة للخطاب الإيديولوجي/ الشعاراتي، الذي ألقى بظلاله على مقترحات المحترف، وعلى الثقافة العراقية عموماً. وستزداد حدة الانشطار والتشظّي والقلق في تضاريس هذا المحترف التاريخي مع جيل الحرب، جيل الثمانينيات الذي وجد نفسه مأسوراً لـ«تقنية الخراب» وحدها، فحاول التنصّل من إثم الخطاب الرسمي إلى خطاب مراوغ للنجاة من أعباء تلك الفترة الظلامية التي أطاحت الحلم لمصلحة الكابوس الذي اتخذ أشكالاً مختلفة خلال الحرب وما تلاها، وبدا المحترف العراقي برمّته منفيّاً وتائهاً بين سرديات المرحلة، والتطلعات البصرية، وفتنة الذات.